إِنزعُوهم من نفوسكُم قبْل الحيطان بقلم الشاعر هنري زغيب
إِنزعُوهم من نفوسكُم
قبْل الحيطان
“نقطة على الحرف”
الحلقة 1690
“صوت كلّ لبنان”
الأَحد 15 أَيلول 2024
قضَيتُ في الولايات المتحدة ستَّ سنواتٍ، تدريسًا جامعيًّا ومحاضراتٍ مختلفةً في عدد من الولايات، وعاينـْتُ جولةَ انتخابات رئاسية وجولاتِ انتخابات محلية على مستوى الولاية أَو المقاطعة أَو المدينة. وكان يلفتُني خلال الحملات الانتخابية أَنَّ المواطنين كانوا يُلصِقون صُوَر مرشحيهم على أَلواح خشبية رقيقة متوسطة الحجم، ويعقدُونها بنُصْبة خشبية رفيعة، ثم يشكُّونها في تراب ناصية الطريق أَو وسْط الحدائق العامة أَو أَرض المستديرات الكبرى في المدينة. ولم أَرَ صورةَ مرشحٍ “تجتاح” جدار مبنى أَو تفرض قماشها الواسع يافطةً على عَرض الطريق فوق المارَّة، ولم أَجِد صورةَ مرشح مضاءَةً ليلًا على شرفة بيت أَو فوق عمودٍ على الطريق.
كل هذا بسيطٌ بديهيٌّ في أَميركا أَمام ظاهرةٍ أَهَم: هي أَنَّ جميع تلك الصُوَر – حيثما كانت عشية الانتخابات – تختفي صباحَ اليوم التالي من جميع الأَماكن أَيًّا تكن النتيجة، فتعودُ الأَماكن جميعُها خاليةً من صُوَر المرشحين. وباختلاطي مع نفَر كبير من الأَميركيين بحُكْم سكَني أَو علاقاتي المهنية، لم أَسمَع أَيَّ حوارٍ يجري حول الانتخابات والفائزين، بل كانت الحياة تعود إِلى مجراها اليومي كأَنَّ الانتخابات لم تحدُث، فينصرفُ الناس إِلى شؤُونهم معتبرين أَنَّ للفائزين شُؤُونَهم يهتمُّون بها لصالح مَن انتخبُوهم ولصالح المدينة أَو الولاية أَو البلاد، وهو عكْسُ ما يجري عندنا في هذا العالم الثالث التاعس.
أَعرف أَنني أَتحدَّث عن ظاهرةٍ ليست حاليًا عندنا في البلاد، لكنها أَخطرُ من الصُوَر على الحيطان أَو اليافطات فوق الطرقات: هي أَنَّ صُوَر السياسيين باقيةٌ في النفوس، وفي حديث اللبنانيين اليومية كأَنَّ الانتخابات ستجري غدًا أَو بعدَ غد. وأَقصى شهوةِ السياسيين عندنا أَن يكونوا حديثَ الناس يوميًّا، معَهم أَو ضدَّهم لا فَرق، المهمُّ أَن يتحدَّث الناس بهم يوميًّا كي يظلُّوا ساكنين نفوسَ المواطنين، فلا يجتمع اثنان إِلَّا ويكون حديثهم في السياسة والسياسيين تنظيرًا وتفكيرًا وتحليلًا وتخمينات. وهو هذا ما يُدخِل البلاد في ما هي عليه اليوم. لذلك: نصفُ شعبنا في الدورات السابقة لم يَنتخب أَحدًا، إِمَّا قَرَفًا من الطقْم الموجود، أَو رفضًا قانونَ انتخابات مِسْخًا يَفْرض على الناس في اللوائح أَسماء لا يريدونها لكنهم مُرغَمون عليها لأَنهم يَرغبون في اسمِ واحدٍ فقط من اللائحة.
لذا، لا خلاص إِلى لبنانٍ جديدٍ إِلَّا بخلْع صُوَر السياسيين من النفوس قبْل الحيطان، وبتَوعية نصف شعبنا الذي انتخبَهم، أَلَّا يبقى فردًا في قطيع، ولا حبَّةً في مسبحة اليوضاسيين، ولا حطبةً في موقدة البيلاطسيين، ولا مستسلمًا ولا مستزلِمًا لأَحد، وأَن يتَّعظَ من الوضع الذي نغرق فيه بسبب الذين يَسُوسُون البلاد دينوصُوريين لا يغيبون حتى يُورِّثوا نَسْلهم أَن يُكْملَ قيادة القطيع.
تُراني أُعمِّم؟ طبعًا لا… الصالحون من السياسين، على نُدْرَتهم، يَعرفون أَنني لا أَقصدُهم، والفاسدون يَعرفون تمامًا أَنني أَقصدُهم لكنهم يُكابرون ويعتبرون أَنني لا أَقصدهم هم بالتحديد بل أَعني آخرين بينهم.
وتبقى النتيجةُ هي هي: خلاصُ شعبنا في يدِه لا في الخارج، أَن يَخلعَ صُوَر السياسيين من النفوس قبل الحيطان، فيقدِّمَ للعالم سياسيين جُدُدًا يتعامَل معهم العالم بثقةٍ وصدقيةٍ واحترام، كي تعودَ ثقةُ العالم بلُبنان. ولبنانُ غنيٌّ بأَبناء ناجحين في كل حقْل وقطاع، على أَرضه أَو حاليًا مهاجرين في العالم، يُمكنُهم أَن يتولَّوا الحُكْم في لبنان باختصاصاتهم واستقامتِهم فيعرفَ العالم أَنَّ لبنان ليس فقط هذا الطقمَ السياسيَّ المهترئ منذ عقود، بل فيه جديرون أَنْ يَحكموا، شرطَ خَلْعِ الجدار السَميك الذي يُعيقُه عنهم نَسْل الدينوصُوريين.
هـنـري زغـيـب