بأقلامنا

صيدا : مجدُ لبنان 2027 بقلم الشاعر هنري زغيب

صيدا : مجدُ لبنان 2027
“أَزرار” رقم 1390 “النهار”
الجمعة 5 كانون الأَوّل 2025

في آخر خطابٍ للبابا لاوون الرابع عشر قبل أَن يستقلَّ طائرةَ العودة، أَبدى شُعُورَه أَنْ لم يستطِع زيارةَ الجنوب. وفي كلامه قصدان: الأَول عاطفيٌّ لِما في الجنوب من جراحٍ كان سيُبلْسمُها بحضوره، والآخرُ دينيٌّ لِما يَعرف عن أَرض جنوبنا من علاقة وُثْقى بيَسوع: في صيدا وصور بشفائه ابنةَ المرأَة الكنعانية الفينيقية، في مغدوشة حيث كانت أُمه تنتظره في مغارةٍ على شط الجنوب، في قانا حيث آمن به تلامذته إِلهًا بعد اجتراحه تحويلَ الماء إِلى خمر، وفي حرمون الذي تجلَّى عليه لتلامذته الثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا، ومن ذَوْب ثلوجه يتشكَّل نهر الأُردن الذي شهِدَ يوحنا يعمِّد يسوع بماءٍ من لبنان.
ولكنْ… إِن لم يحظَ جنوبُنا الأَغلى بالهدية الدينية، فهو حظيَ بهدية دنيوية من برشلونا قبل أَيام (انعقاد المنتدى الإِقليمي العاشر لوزراء خارجية الدول أَعضاء “الاتحاد لأَجل المتوسط”): إِعلانُ اختيار “صيدا 2027 عاصمةً متوسطيةً للثقافة والحوار على شرق المتوسط” (على غربه “قُرطبةُ” الأَندلس في إِسبانيا). وهي مبادرة مشتركة مع مؤَسسة “آنا لينْد” الأُورومتوسطية للحوار بين الثقافات. وزير خارجيتنا الدينامي يوسف رجِّي، عرَّابُ هذا الإِعلان، وضع هذا الاختيار “إِشارة عالَمية جديدة إِلى رسالة لبنان بلدًا للحوار والتلاقي والانفتاح”.
مهمة هذه التسمية أَن تُطوِّر المدينتان برنامجًا مشتركًا لتنظيمِ الحوار بين الثقافات، وحمايةِ التراث المادي وغير المادي، وتَبادُلِ الخبرات بين المدينتَين، وتنظيمِ أَنشطة فنية وتثقيفية وتربوية مشتركة تُمتِّن الرابط بين المجتمعَين المحليَّين منصَّةَ تَوَاصُل بين الفنانين والباحثين والطلَّاب.
برنامج صيدا 2027 عنوانُهُ “خيوطُ البحر”. وسيكون لها أَن تستضيف أَنشطة ثقافية وحوارية أُورومتوسطية، فتتحوَّل مختبرًا ثقافيًّا يُبرمج جولات تراثية في الأَحياء القديمة، ومهرجانات للحكايات الشفوية، وبـيـينَّاليات للشباب، وجلسات حوار بين الأَديان، وإِنشاء محفوظات رقمية تصِل ذاكرة صيدا بسرديات الحوار المتوسّطي، إِلى مهرجان صيدا الدولي، وماراثون صيدا، وعدد من المبادرات الشبابية.
ها هي صيدا إِذًا: السيِّدةُ الراقية في جنوبنا الغالي، تلتمع سنة 2027 متأَلقةً في هَيبة حوار متوسطي هي له، منذ كانت، رائدةٌ في غير حقل وميدان.
أَقولها وأَعتزُّ بصيدانا: ها الكاتب والدبلوماسي الفرنسي بول موران (1888-1976) في كتابه “المتوسط بحر المفاجآت” (1938) يكتب يوم زار جنوبنا مارًّا بصيدا وصور في طريقه إِلى بيروت: “صيدا وصور اسمان بهيَّان، منبسَطان جميلان لا نسمع فيهما سوى صوت البحر… مدينَتا صيَّادين، كانتا ذات فترةٍ من التاريخ كلَّ تاريخ العالَم. على أَرضهما نما جوهرُ الفكر المتوسطي، والعلْمُ الكلداني، وفنُّ الزخرفة، والصناعة والتجارة نحو 2000 سنة قبل الميلاد”.
وأَقولها معتزًّا بصيدانا، متذكِّرًا قراءَتي “عشتريم” سعيد عقل (فاجعة من 3 فصول وخاتمة)، عن بطولةِ صبيَّةٍ صيدونية، لم تستطعْ أَن تُنقذَ حياة شعبها بشرَف، فحقَّقَت لهم أَن يموتوا بشرف، وركَّزَت لشعب لبنان ومجد لبنان أُسطورةً يُعاد إِليها في كتابة الخلود.
وأَقولُ صيدا، وجبيني إِلى فوق، متذكِّرًا ما رواه متى في إِنجيله (الفصل 15، الآيات 21 إلى 28) كيف جاءَ يسوع إِلى نواحي صور وصيداء، وهناك جثَتْ أَمامه المرأَةُ الكنعانيةُ الفينيقيةُ متضرِّعةً إِليه أَن يَشْفي ابنتها، فشفاها.
وأَقولها وفي بالي إِرثُ عُصور حضارية تعاقبَت على صيدا فينيقية ورومانية وعربية وصليبية وعثمانية، ومعالِمُها الأَثرية:القلعة البحرية، خان الفْرَنج، الأَسواق العثمانية القديمة، نسيجها الاجتماعي الوطني، هي الإِحدى أَقدم المدن المأْهولة على الساحل الشرقي للمتوسّط.
بلى… هكذا لبنان: لا يقاسُ بمساحته ولا بعدَد سكانه، بل بإِشعاع مُدُنه التي تختزن تاريخًا نابضًا بعناوين الحضارة.
وبعد عامين، ستكون صيدا حديثَ المتوسط، وتحملُ لِلُبنان مجدًا جديدًا يجعلُنا، مرةً أُخرى، وطنًا غيرَ عاديٍّ، في كلِّ فاصلةٍ منه حكاياتٌ ساطعةٌ من حضارة وجمال.
هـنـري زغـيـب

الصورة أعلاه:
صيدا على طابع بريدي بقيمة 5 غروش من زمن “لبنان الكبير”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى