منهض الفينيق ٠٠٠بقلم أمل كردي

منهض الفينيق
٠٠٠بقلم أمل كردي ٠٠٠٠
في رماد البلاد،
حين كانت الأيام تأكل أبناءها،
وحين كان الجنوب يبيت كلّ ليلةٍ تحت خيمة جنازة،
كانت البيوت تكتب وصيّتها على ضوء الشظايا،
وكنتَ وحدك تُمسك خرائط الخوف،
وتعيد ترتيبها على مقاس الحياة
رفعت صوتك كمن يوقظ اللهفة من تحت الأنقاض،
كمن يزرع رجاءً في تربةٍ أكلها الحريق
وقفتَ على رماد المدن،
وبنيت من وجعها مفاوضات من لحم، لا من ورق،
مفاوضات تعرف أن الجنوب لا يُعطى، بل يُنتزع
كان الجنوب ،
يشبه غيمةً مشقوقة،
ينزُّ منها الرماد بدل المطر،
وكنتَ تمسك ذراع النار،
تُحدّق في وجهها كمن يعاتب شقيقًا ضالًا،
لا كمن يرتعب من وحشٍ بلا لغة
كنتَ الحرف الأخير من سورةِ الرجاء،
وما بعدك كان التأويل.
كنت وحدك تقف في العاصفة،
تغزل من خيوط الدخان علَمًا،
وتوقف الجنازات لتُقيم مكانها الاناشيد
وتنبت من بين بيانات النعي اغصانا من زغاريد .
كان احتمال الفرج مستبعدا وكنت كمن يبحث اواسط الشهر عن هلال عيد
كأنك تنقّب في رماد القرى عن ضوءٍ لم يُولد بعد.
الحرب كانت تصطاد الوقت، وتكدّس النواح في خزائن الجنوب،
والسماء مغلقة كصندوق أسود في طائرة محترقة.
لكنّك كنت تُدوّن الإصرار بالحبر الحارّ،
تستخرج من ضجيج الركام نشيدًا يمكن الوقوف عليه،
كأنك تهمس في أذن القصف بأن يُعيد حساباته.
فقهرت العاصفة بحنكة شجرة زيتون،
لم تكن تسعى لمجدٍ،
كنت تسند الجدار الذي كاد يقع على رؤوسنا جميعًا.
كان الرجاء مدفونا تحت الأنقاض،
وأخرجته إلينا حيًّا
كنت الجسر بين الموت والتروّي،
السور الذي وقف بيننا وبين الإبادة،
ولعيوننا التي جفّت من الانتظار أعدت لمعة الدهشة
لستَ سياسيًا…
أنتَ النسخة الأرضية من فكر علي،
تمشي في حقولِ الجنوب،
وكلّ خطوةٍ تُخيف الرصاص
كنت الممرّ الآمن بين شظايا الذاكرة،
كنتَ الوصل بين الحلم والاحتمال
نهضتَ…
لا كسياسيٍّ يُفاوض، فيساوم على الرمق،
بل كأبجديةٍ عجنت بماء الصبر،
كقلبٍ يسمع وجع الجنوب في صراخ الرضّع تحت الانقاض.
من ركام القرى خرجتَ،
وفي عينيك خارطة نجاة،
كأنك رميتَ على الموت قنبلة من رجاء،
فانحنى،
وكان الصوت صوتك،
والنبض نبضك،
والدهشة… دهشة الناس حين صدّقوا أنّ الحلم لا يُؤجل.
حين وقّعت على الورقة،
لم تُنقذ أرضًا فقط،
أنقذت ما تبقّى من إنسان فينا،
أنقذت صبر القرى،
وبكاء الآبار،
وطيبة الحجر حين لا يصطلي
لم تكن تفاوض… كنتَ تنتشل وطنًا من بين فكّي المِحرقة،
كما يُنتزع الوليد من حريق المهد..
يا من علّق صوته على جدار الوقت،
وصار يتلو على العالم صلاة النجاة،
لم يكن “وقف إطلاق نار”…
كانت نبوءةً تحققت،
وكأن الشعب يُسلّم رايته من الموت إلى الحياة… بين يديك.
أيها الصدري المعيد للماء طُهره،
وللتراب ملامحه،
وللسماء صدى التكبير في حضرة الطمأنينة.
ايها المعجزة التي تمشي على رمادنا تلقن الفينيق كيف ينهض كلما ذكر اسمك
يا من جعل من اللهجة الجنوبية لحنًا يُتلى في قاعات الأمم،
يا من كظمت أوجاع الضاحية في قربة صبرك،
وسطرت للعالم مشهد وطنٍ لا يركع إلا في السجود.
حين كنّا نبحث في دخان القذائف عن الفرج،
وجدناك تسير نحونا،
تحمل في يدك ميزان عقل،
وفي الأخرى مفاتيح العودة.
أيها القابض على الجنوب بكفي جد على رأس حفيد خائف،
كيف اطفأت نيران الجحيم بالحكمة المتقدة
وأقنعت العالم أن الجنوب ليس بندقية فقط،
بل كرامة تمشي،
ودمعة تكابر،
وسجادة صلاة لا تحترق.
في ذاكرة الجنوب،
اسمك ليس توقيعًا على اتفاق،
بل وشمًا على كتف وطنٍ قاوم،
وشهقةً خرجت من صدور الامهات
لا تخدعنا أناقة الصمت فيك،
فنحن الذين قرأنا نشيد المعجزة في عينيك،
أدركنا أن الجنوب لم ينقذه رصاص،
بل رجلٌ يشبه الفجر إذا غضب،
ويشبه الدعاء إذا انتصر.
في ذكرى وقف الإبادة،
نقف نحن،
الناجين من الرماد،
نرفع رؤوسنا لا لأنّنا نعيش،
بل لأنّكَ كنت هنا
أوقفت الحرب…
لكن لم تُطفئها،
بل حبستها في قارورة التاريخ،
ووضعتَ على فمها ختمًا من كبرياء
وأقمت فينا وطنًا بعد أن كدنا نصبح مقابر متنقلة.
فسلام عليك نبيه بري…
منهض الفينيق،
وصوت الفجر في ليل اليأس،
وصانع الاستثناء حين خذلتنا كل المعايير.
٠٠بقلم أمل كردي




