تذكارُ المبدعين وذاكرةُ المكان بقلم الشاعر هنري زغيب

تذكارُ المبدعين وذاكرةُ المكان
“نقطة على الحرف”
الحلقة 1751
“صوت كلّ لبنان”
الأَحد 23 تشرين الثاني 2025
بعد محاضرةٍ أَلقَيتُها، مطلعَ هذا الأُسبوع في ثانويةٍ رئيسَةٍ، عن “الأَخوَيْن رحباني وفيروز: ظاهرةٌ خارقةٌ في تاريخ لبنان الحديث”، سأَلَتْني الـمُدَرِّسةُ عن أَمكنةٍ ذاتِ عَلاقةٍ بسيرة الأَخوَيْن رحباني ومَسيرتِهِما، يمكنُ أَن تصطحِب إِليها تلامذَتَها. لم يفاجئْني السؤَالُ، لكنني عَيِيْتُ عن تعييني لها متحفًا، أَو معالِمَ ذاتَ عَلاقَةٍ بالأَخوَيْن وفيروز، تُدخِلُ تلامذتها إِليها وتشَرْحُ لهم عن تاريخها.
وفيما أُغادر الثانوية، رحتُ أُفَكِّرُ كيف عبقريَّان خالدَان في الإِبداع اللبناني، غَنَّيَا لبنان وشعبَ لبنان وأَرضَ لبنان كما لا أَحد، ولا يملِكان شبرَ أَرضٍ واحدًا في لبنان، ولا مَعْلَمَ حيًّا يشْهدُ على أَثرهما فيه، أَيامَ كانا يُبدعان خلود الفن في لبنان.
هكذا، في غيابِ اهتمامٍ رسميٍّ بأَمكنة المبْدعين اللبنانيين، وأَيامَ كنَّا، زميلاتي وأَنا في لجنة “الأُوديسيه”، نَنْشَطُ في ندوات ثقافية واحتفالات لِمتابعة أَماكن المبدعين اللبنانيين، أَقمْنا احتفالَين في هذا السياق.
الأَول في عالَيْه، مساءَ الأَربعاء 6 أَيلول 2000، في نادي عاليه وتَعَاونًا معه، أَزَحنا الستارةَ عن لوحةٍ رُخاميةٍ تذكاريةٍ على مدخل البيت الصيفيِّ الْكان يسْكُنه المبدع مصطفى فرُّوخ. وتحدَّث في احتفالنا يومئذٍ رئيسُ النادي الصديق رامي الريس، والفنَّان عارف الريس، والنحاتة سلوى روضة شقير، وهاني مصطفى فرُّوخ.
الاحتفالُ الآخَر كان مساءَ الثلثاء 27 نيسان 2004، يوم أَزَحنا الستارةَ عن لوحةٍ معدَنيةٍ تذكاريةٍ على زاوية المبنى المقابلِ التياترو الكبير ومبنى اللعازارية. حَفَرنا يومها على اللوحة: “في عِلِّيَّة الطبقة الأَرضية من هذه البناية، أَطلقَ الشيخ فؤَاد حبيش جريدةَ “المكشوف” في الأَول من أَيار 1935، و”دارَ المكشوف للنشر” سنة 1936، ومنهما احتضَنَ أَعلامَ النهضة الأَدبية في لبنان”. وجرى رفعُ الستارة بعد احتفالٍ منبريٍّ في “نادي الصحافة” (مبنى اللعازارية)، تحدَّث فيه نقيبُ الصحافة يومها محمد البعلبكي، والكاتبُ مُنَح الصلح، والأَديب جان كميد، والكبير غسَّان تويني الذي روى أَنّ أَول مقال له كان بعنوان “لغة الحياة” نشرَهُ له الشيخ فؤَاد حبيش في “المكشوف”.
هذه الظاهرة قلَّما أَجدُ لها دُرْجةً سائدةً في لبنان كما أَجدُها في الغرب. وذات يوم، إِذ كنتُ أَكتشفُ شوارع باريس رفقةَ الصديق الكاتب عبدالله نعمان، راحَ يدُلُّني على أَبنيةٍ تحملُ عند مدخلها، أَو على صدرِ حائطٍ منها، لوحةً رخاميةً تَشهدُ على أَنَّ كاتبًا أَو موسيقيًّا أَو مبدعًا في حقلٍ معرفيٍّ، عاش في هذا المبنى من هذا التاريخ إِلى هذا التاريخ، أَو وُلِدَ في هذا المبنى، أَو تُوُفِّيَ فيه. وما هي حتى مَرَرْنا بمبنًى على جدارِهِ لوحةٌ رخاميةٌ قرأْتُ فيها: “هنا عاش بين 1908 و1910 الرسامُ والشاعرُ اللبنانيُّ الأَميركيُّ جبران خليل جبران”. وفي مكانٍ آخرَ من العاصمة، مرَرْنا بحديقةٍ باريسيةٍ جميلةٍ، على مدخلها لافتةٌ كبيرةٌ خضراءُ قرأْتُ فيها: “مُتَنَزَّه جبران خليل جبران – شاعر ورسام لبناني 1883-1931”.
واليوم، كلَّما فتَحْنا الشاشة الإِلكترونية بحثًا عن سيرةِ مبدعٍ خالدٍ، غالبًا ما نقْرأُ تعدادًا للبيوت التي تنقَّل إِليها، وأَحيانًا صُوَرَ تلك البيوت، ما يدُلُّ على أَهمية المكان في سيرة المبدعين ومسيرتهم، حتى إِذا توقَّفَ النبضُ في أَجسادهم أَكمَلَ النبضُ في أَماكنهم، فأَحياها وأَحياهُم فيها لا إِلى غياب.
إِنه المكان: يَضُمُّنا أَحياء، ويُحيينا في غيابنا الأَخير، حتى يُصبحَ الغيابُ فيها حضورًا دائمًا لا إِلى غياب.
هـنـري زغـيـب




