بأقلامنا

لأَنه زياد … أَخيرًا، قرَّر الاستقالة. من زمانٍ وهو يحاولها. بقلم الشاعر هنري زغيب

لأَنه زياد …
أَخيرًا، قرَّر الاستقالة.
من زمانٍ وهو يحاولها.
منذ كان يُضْحك الناس وهو في أَوجع لحظات الحزن.
وكم كبيرًا حزنُه كان. وصامتًا. وعميقًا، ومغلَّفًا بالسخرية المريرة.
كان يثير ضحك الناس، فيما يغتلي قلبه بمآسٍ لا يحتملها قلب.
كان يَهِبُ الناسَ الضحك، ولا يعرفون أَنه يُضْحكُهم من داخل حزنه الواسع بحجم تراجيديا إِغريقية.
في مسرحه انتفض على كل موروث. وفي لحنه أَطلع ما لم يطْلعه سواه.
زياد الرحباني، يستحيل أَلَّا يُبدِع. كأَنه، منذ تعلم التحليق، ورِثَ الإِبداع في جِيناته فلم يُكمِل أَحدًا ولم يُقَلِّد أَحدًا.
أَخذ من عاصي لحظةَ العبقرية الخلَّاقة، وأَعطى فيروز عالَمها الجديد بجمهور جديد ووساعة جديدة.
وها هو اليوم رحَل.
حَمَل صمتَه.. ورَحَل.
وكم كان صمتُه صاخبًا من داخل حزنه ومآسيه.
من المنصَّة الرحبانية انطلق، لا ليُكملَ بل ليتفرَّد. وكانت فرادته مغايرة حتى الغرابة العبقرية.
وفيروز، أُمُّه الأُسطورةُ الحية، حين لحَّن لها، وسَّع مساحة مُحبِّيها حتى مطالع الجيل الجديد، وخلَق لها جمهورًا آخر.
مَن يعرفون أَعماله الفذَّة، مسرحًا وأُغنياتٍ، سيشعرون بفراغٍ في انتظاراتهم.
ومَن لا يعرفونه من الجيل الجديد، سيكون غيابُه مدخلًا لهم إِليه.
إسمُه، وحده اسمُه، عنوانٌ للعبقرية التي تشِعُّ كيفما نَطَقَت.
وهو قال الكثير، مما لم يقُلْه سواه.
اليوم، يودِّعه لبنان والعالم العربي، وفي الوداع غصَّةُ الفراق الموجع، وخلودُ العمل المبدع.
وفيروز، التي ودَّعَت قبله شقيقتَه ليال، ووالدَه عاصي، ستغمُرُ اليوم حبيبَها “هَلي”، وغاليَتَها ريما، وتتعمَّقُ أَكثر في صمتها العميق أَصلًا، لتحمل صدمة المآسي التي غنَّت لها: وطنًا وأُسرةً ومآسيَ لا حدَّ لوحشيتها الصادمة.
فيروز اليوم، كاهنة من الميتولوجيا الإغريقية، تحتمل قصف القدَر بما لا تحتمله قمم الجبال.
زياد الرجباني، نودِّعُه اليوم بكل الأَسى، وننحني أَمام أَيقونتنا السيدة فيروز، مستمدِّين منها ومردِّدين معها صرختَها الجبَارةَ القُوَّةِ في زَنوبيا بمواجهة القَدَر: “كاسَك يا موت”.
هنري زغيب

زر الذهاب إلى الأعلى