بأقلامنا

خديجة وكمشة تراب بقلم الدكتور حسن عاصي

 

الحاج جهاد مغترب جنوبي إلى أفريقيا، متعلق ببلدته وبأبناء بلدته ويحرص على زيارتها كل عام، في حين أن آخرين من المغتربين من بلدته ومن البلدات المجاوره قلما يأتون إلى بلداتهم؛ وعندما يغادر الحاج جهاد بلدته عائدا إلى أفريقيا، كما في استقباله حين وصوله، تَعِجُّ دارته بالمودعين : لوداعه من ناحية، ولإرسال الأمانات والهدايا إلى أقربائهم وأصدقائهم من ناحية ثانية .

منذ أيام، وكالعادة مع اقتراب موعد مغادرته، عجت دارته بالزوار والمودعين، كان ملفتا للنظر وصول خديجة، وهي فتاة من ذوي المتواضعة قدراتهم العقلية، وليس لها أقارب أو أصدقاء حيث يتوجه الحاج جهاد، مما لفت إنتباه الحضور خاصة أنها كانت تحمل بيدها (صُرَّةً) ملفوفة لا يُدْرَى ما في داخلها .

وصلت خديجة، حَيَّت الحاج جهاد والحضور ملقية عليهم السلام واقتربت من الحاج جهاد لتسلمه الصرة … سألها أحد الحاضرين : ماذا يوجد في الصرة ولمن تودين إرسالها ؟!
أجابته : الصرة تحتوي على حفنة من تراب الوطن، أُرْسِلُها مع الحاج جهاد لِيُقَدِّم إلى زواره هناك كمشة من التراب، علَّ رائحة التراب المضمخ بعبق الشهادة تستثير فيهم الحمِيَّة فيتذكروا وطنهم .

شعور خديجة هذا استوحته من مواكبة قوافل الشهداء التي كانت تتهادى أمام ناظريها … من بنت جبيل إلى عيترون إلى ميس الجبل، إلى بليدا إلى كفركلا إلى رب ثلاثين إلى طلوسة… وصولا إلى الخيام درب السماء كما سماها النائب المجاهد الياس جرادة، وإلى سواها من المدن والبلدات الجنوبية التي عمّدت أيامها بالدم ووشّحت تاريخها بالعزة والكرامة، بالأنفة والكبرياء .

على قاعدة (الحكي مش متل الشوف) بادرة خديجة هذه، ذات القدرات العقلية المتواضعة، يضاهي أبيات محمود درويش من قصيدته في حضرة الغياب :

ورأيتَ رأيت … رأيت بلاداً يلبسها الشهداء
ويرتفعون بها أعلى منها وحياً وحياً.

… أنتم غَدُنا، فاحيَوا كي نحيا فيكم!
وأَحِبُّوا زهر الرُمّان وزهر الليمون

كما يضاهي كلام إبن الرومي :

ولي وطن آاليت ألا أبيعه
وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
إلى قوله :

وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضّاها الشباب هنـــالك

يضاهي كذلك كلام المتنبي في حب الوطن :

وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي

… وَطني عَليكَ تحيتي وسلامي
وقْفٌ بحلّي غربتي ومقامي •

وَطني إليكَ أحنُّ في سفري وفي
حَضَري أجل بيقظتي ومَنامي •
.
كما يرقى إلى أبيات أحمد شوقي :

وَطَنٌ يَرُفُّ هَوىً إِلى شُبّانِهِ.
كالرَوضِ رِفَّتُهُ عَلى رَيحانِهِ.

هُم نَظمُ حِليَتِهِ وَجَوهَرُ عِقدِهِ.
وَالعِقدُ قيمَتُهُ يَتيمُ جُمانِهِ.

يَرجو الرَبيعَ بِهِم وَيَأمَلُ دَولَةً.
مِن حُسنِهِ وَمِنِ اِعتِدالِ زَمانِهِ.

وصولا إلى ما ورد في القرآن الكريم : في قوله تعالى :
” وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا (البقرة : 35)
وإلى الحديث الشريف في قوله عليه السلام وهويغادر مكة :
” ما أطيبك من بلد و ما أحبّك إليّ، ولولا قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرك ” .

إلى قول الإمام علي عليه السلام في حب الوطن :

فإن حب الأوطان دليل على الايمان، وما عمرت البلدان إلا بحب الأوطان .
***
إنه الوطن … موئل العزة والكرامة …
إنه الوطن … عرين الأنفة والكبرياء…
وطن يتيمم بترابه المجاهدون، يتزود من قدسية ثراه المجاهدون .
وطن فيه خديجة وأمثال خديجة وطن لا يهون، يطاول بمجاهديه المدى ويمتطي بمقاومته صهوة العلى والعلياء .

زر الذهاب إلى الأعلى