بأقلامنا

الإِبداعُ ذاكرةُ المكان بقلم الشاعر هنري زغيب

 

الإِبداعُ ذاكرةُ المكان
“أَزرار” رقم 1270
“النهار” السبت20 أَيار 2023

على 36 كلم شماليَّ پـاريس: بلدة هادئة اسمُها أُوڤـير (Auvers-sur-Oise) خلَّدها فان غوخ بسُكناهُ فيها (“نزْل راڤو” Ravoux) عاش فيه آخر 70 يومًا في حياته حتى موته منتحرًا في 29 تموز 1890.. وخلال تلك الفترة القصيرة من حياته القصيرة (37 سنة) رسم 80 لوحة عن شوارعها وأَزقَّتها وحقولها وناسها.. بعد 97 سنة (1987) اشترى هذا النزْلَ رجلُ الأَعمال البلجيكي دومينيك جانْسِنْس فرمَّمه تخليدًا ذكرى الرسام، وأَنشأَ فيه “مؤَسسة ڤان غوخ” فأَصبح محجَّ الزوار والسياح محبي ڤان غوخ.
وفي “إِكس آن بروڤانس” (جنوب فرنسا) جبل تاريخي اسمه “سان ڤيكتوار” خلَّده الرسَّام بول سيزان بوضْعِهِ عنه نحو 80 لوحة في زوايا مختلفة وأَوقات مختلفة من النهار والمساء، فحفظَتْهُ الدولة من تغيير شكله حتى إِذا احتاجَت صخورَه جوَّفَتْه من الداخل وأَبقَت على مظهره الخارجي كما هو، احترامًا ذكرى سيزان ومَن رسَم الجبَل بعده (پــيكاسو، رنوار، كاندنسكي وآخرون).
هكذا يُخلِّدُ المكانَ مبدعُون مرُّوا به كما “أُوڤير” ارتبطَت بڤان غوخ و”سان ڤيكتوار” بسيزان، ويصبح الإِبداع ذاكرة المكان.
وعندنا كذلك أَمكنةٌ خلَّدَها مبدعوها، فارتبطَت بْشَرّي بجبران، وزحلة بسعيد عقل وميشال طراد والمعالفة، وزوق مكايل بالياس أَبو شبكة وأَنطُون قازان، والفريكة بأَمين الريحاني، وبسكنتا بميخائيل نعيمه وعبدالله غانم، وعين كفاع بمارون عبود، وراس المتن بأَنيس فريحة، وبعقلين بسعيد وخليل تقي الدين، والنبطيَّة بحسن كامل الصبَّاح، وحلْتا بيوسف الحويِّك، وراشانا بالإِخوة بصبوص، وبربارة بالشاعر القروي، وقيصرية بكفيا بقيصر الجميِّل، والمحيدثة بإِيليا أَبو ماضي ووليد عقل، ومرجعيون بجورج جرداق ووليد غلمية، وأنطلياس بالأَخوين رحباني، والبسْطة (بيروت) بمصطفى فرُّوخ، وتلَّة الخياط (بيروت) بعمر الأُنسي، وزقاق البلاط (بيروت) ببيت فيروز، وحدتون بجان خليفة، ودير القمر والدبّية بالبساتنة…، ولا ينتهي تعداد أَماكن في لبنان ارتبطَت بمبدعيها فبات اسمها يذكِّر بهم، وسيبقى كذلك مدى التاريخ الآتي، فالمبدعون يخلِّدون المكان حتى يرتبط باسمهم لأَنهم خالدون.
كثيرًا ما نتجوَّل في شوارع أُوروپا، فإِن لم نمرَّ بمتحفٍ على اسم مبدعٍ خالد نمرُّ بشوارعَ تحمل على نواصيها أَو جدرانها أَسماءَ مبدعين عاشوا هناك في مسكن أَو بيت أَو شقَّةٍ، أَو نجد مقهى كان يجلس فيه مبدعٌ فيشتهر المقهى على اسم ذاك المبدع.

تخليدُ المكان (وغالبًا يكون مجهولًا أَو مغمورًا بالنسيان) على اسم المبدع ظاهرةٌ حضارية تجعل الوطن يتَّخذُه شرفًا وهُويَّة. فالناس العاديون ينتسبون إِلى الوطن، أَما المبدعون فالوطن ينتسب إِليهم.. من هنا هناءَةُ المبدعين بأَماكنهم (بعد غيابهم) فتَنتسب إِليهم بفضل لجنة وطنية أَو الجيل الثاني من أَهلهم أَو مهتمِّين بوجه لبنان الحضاري، لأَن المكان جزءٌ من ذاكرة الوطن.. وسعدتُ أَخيرًا بعلمي أَنَّ بلاطةً تذكارية باتَت ترصِّع المبنى الْكان يَسكن فيه أُنسي الحاج (الأَشرفية).. وكنتُ في احتفال كبيرٍ قبل نحو ربع قرن وضعتُ في بيروت، باسم لجنة “الأُوديسيه”، بلاطةً على المبنى الْكانت فيه “دار المكشوف” (قبالة “الغران تياتر”) تخليدًا ذكرى المؤَسس الشيخ فؤَاد حبيش مُنْشِئِ أَول دار نشر في لبنان أَطلق بها كوكبةً مباركة من أُدبائنا اللبنانيين.
تخليدُ المكان باستذكار مبدعيه هو حفْظ الوطن تاريخيًّا بأَعلامه المبدعين لأَجيال مقبلة ستظلُّ تنْسُب المكان إِلى المبدع الخالد. والدولة التي تحقِّق هذا الأَمر تكون هي التي تتكَرَّم بهم، وتاليًا تكون، فعلًا لا تنظيرًا، مستحقَّةً أَن تُدير شُؤُون لبنان الوطن.

زر الذهاب إلى الأعلى