بأقلامنا

جورج حبش َالرمز الذى رفض الاذعان للتسويات واستنهض روح المقاومة* حسين حمدان

المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان
01-02-2023
صباح أحد الأيام في مطلع السبعينات، وامام مركز الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في شاتيلا، كان يجلس تحت الشجرة رجل فوجئنا نحن الواصلين للتو من البقاع بوجوده انه الحكيم، كانت تلك المرة الاولى التي فزت ورفاقي بلقائه، مع انه اقتصر على السلام عليه فقط، الا انها كانت مفاجأة غير منتظرة ولا تنسى.
المرة الثانية كانت خلال مؤتمر فرع لبنان للجبهة في البداوي، فاجئنا بزيارة مع نهاية المؤتمر ، تجمعنا في احدى باحات المخيم مع السكان، والقى فينا خطاباً ترك في ذهني انطباعاً خاصاً ، انه فيض من المشاعر الانسانية التي عاشها والتي كان يكررها في كل مناسبة. صورة تعبر بأدق التفاصيل عن المعاناة والألم والمرارة التي عاشها شعبنا الفلسطيني خلال مسيرة التهجير والقتل، كانت كلماته تستنهض روح الرفض في السامعين، رنين صوت خارج من اعماق قلب جريح وارادة تتحدى
كان شبحه يلاحق الاعداء، ولخوفهم من تأثيره كانوا يترصدونه، صحيح كان يلتزم بالقرار التنظيمي الحريص على امنه، الا انه كان في العديد من المرات يغافل الحرس ويتفلت من الرقابة. ذات يوم وصلت الى شاتيلا مع اخي بسيارة فولكس فاكن، صعد بالسيارة وطلب من اخي ان يسير في شوارع بيروت، ليشاهد الحركة الطبيعيه للناس، كان يحرص على ابقاء مشاعره الوقادة قريبة منهم.
قبل غروب الشمس بقليل، بينما كنا نجلس على شرفة منزل اخي في النبعه، مرت طائرة ركاب فوق المبنى اثارت انتباهنا فلا طائرات مدنية تمر من تلك المنطقة، لم نعر الامر اهتماماً يذكر، ولكن بعد فترة وجيزة شاع الخبر بان محاولة صهيونية تجري لاختطاف الطائرة التي يشتبه انها تقل جورج حبش. لم يعد هذا الخبر مجرد حدث عربي بل انتشر كالنار في الهشيم تعبيراً عن محبة الناس وخوفهم على الرمز الذي يحاول العدو ان ينال منه.
كان لي شرف المشاركة في مهرجانات عدة، اولها بمناسبة استشهاد القائد البطل جيفارا غزة في سينما بيروت شارع المزرعة. تتالت المناسبات حتى وصلنا الى مناسبة استشهاد المناضلة تغريد البطمة، حيث كان وهو يلقي الخطاب يعبر عن فيض من المشاعر التي تخالجه، وهو يردد اسم تغريد رافعاً يده ليغرد معها تحية لها، وفي تلك اللحظة يعود جرح القلب للنزف مجدداً ويفرض عليه انقطاعاً مؤقتاً للعلاج.
خلال الحرب الاهلية تشكلت قيادة يومية وكنت احد أعضائها. استدعاني مرة وجدته مع المرحوم الوزير السابق نجيب ابو حيدر، ونجيب صديق قديم للحكيم من ايام الدراسة في الجامعة الامريكية، وهو رئيس بلدية حمانا البلدة المختلطة (مسيحيين ودروز). وفي حينها الهيجان فيها كان على اشده، وقد تم تهجير عدد من بيوت المسيحيين، بعد استشهاد ابن اخت شوكت شقير،
المسؤول العسكري للحزب التقدمي الاشتراكي. طلب مني الحكيم الانتقال الى حمانا مع الدكتور ابو حيدر، والاستعانة برفاق من البقاع والسعي لوقف هذه الاعمال، وهو بدوره سيتصل بكمال جنبلاط ويساعدنا عبر اللقاء معه في عاليه حيث تدعو الحاجة. صعدنا الى حمانا ونفذنا المهمة، وتوسعت حركتنا وامتدت الى فالوغا والبلدات المجاورة، وانقذناها من هجوم وشيك. هذه عينة لاحداث مشابهة حدثت في غير منطقة من لبنان ولولا دوره ومساعدته لنا في عقد اللقاءات والمتابعة رغم الفوضى الامنية التي كانت تعم البلد، لما استطعنا تجنيب العديد من المناطق مآسي الحرب الاهلية.
عام 1982 ومع بداية حصار بيروت، بدأت دعوات الاستجابة لطلب العدو قبول منظمة التحرير الفلسطينية اعلان الهزيمة والخروج من لبنان والا استمرار الحصار وقصف بيروت، كان موقفه الرافض لقرار الاذعان او الانسحاب اساسياً في منع سقوط بيروت، واستمرار الصمود والدفاع عنها حتى الاستشهاد. لقد استطاعت بيروت ان تصمد لثلاثة اشهر ولم يستطع العدو دخولها حرباً، وكنا نتمنى لو انه بقي مستمراً في رفضه الخروج ولكنه فضل عدم خلق شرخ داخل المقاومة الفلسطينية، وخاصة بعد ان تعالت اصوات لبنانية ايضاً توافق على خروج المقاومة. المجال لا يتسع لسرد الذكريات بمجملها، فلنتحول الى تكثيفها عبر الانطباعات الشاملة التي تركها بيننا. ويبقى حبه مابقي مناضلون عرفوة او عاشوا زمنه او حتى جاؤوا بعده.
جورج حبش الطبيب الذي بدأ نضاله في مستوصفات اللجوء يداوي المرضى، عجز الطب عن حماية قلبه من الجراح الماً على شعبه المعذب والمقهور.
جورج حبش القائد الذي بث في نفوس كل الشرفاء العرب، روح الوطنية والقومية والعروبة. القائد المؤسس لحركة القوميين العرب، هذه الحركة التي انتشرت في مختلف اصقاع الوطن العربي بمشاركة كوكبة من المناضلين الذين باتوا منارات في مختلف الاقطار العربية، تكافح من اجل الوحدة والتحرر والثأر من الاعداء رداً على نكبة فلسطين وسعياً لوحدة الامة العربية، ولتحقيق العدالة الاجتماعية. يكفيهم فخراً النصر الذي تحقق على الانجليز بطردهم من اليمن الجنوبي، ورمي قبعات ضباطهم في البحر والقول لهم هكذا تخرجون.
عام 1967 حصلت الهزيمة، لم تفتش الحركة عن ذرائع تبرئها من شراكتها بالمسؤولية، فقرر مع رفاقه تجميد نشاط الحركة. ولم يَكِّلْ بل عمل على تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رداً على الهزيمة. الجبهة التي حاولت منذ انطلاقتها ان تحشد كل طاقات الشعب الفلسطيني ضمن اطار تنظيمي واحد، جوبهت من النظام العربي الرسمي باحتضان تيار المساومة وعرقلة مسار الوحدة، بسبب مبدئية جورج حبش وقابلية آخرين للمساومة.تعددت فصائل المقاومة وبدل ان يضيء كل فصيل شمعة على طريق التحرير، للاسف تسلل نهج المساومة وبذرة الانقسام الى الصفوف فبالاضافة لمقاتلة العدو الصهيوني ورد اعتداءات النظام العميل في الاردن، اصبح سطوع نجمه مبهراً لدرجة انه تجاوز صفة القائد اليساري المقاوم الشرس العنيد بل اصبح حكيم الثورة. كيف لا؟ وهو الضنين على الوحدة الوطنية ومعه رفاق يستشهدون شهادات قَلَّ نظيرها، امثال جيفارا غزة الذي اقَضَّ مضاجع الصهاينة وجعل غزة حرة في الليل، يختبئ الجنود الصهاينة فيها ليلاً كالجرذان خوفا منه ومن رفاقه الاشداء. وديع حداد الذي اعاد للقضية الفلسطينية حضورها على المستوى العالمي، بعد ان توهموا انها كانت آيلة الى النسيان غسان كنفاني الذي تولَّى بقلمه جذب احرار العالم لنصرة القضية الفلسطينية، ابو علي مصطفى الذي تسلم الراية وسار الى الشهادة طالما المسؤولية تتطلب التضحية بالنفس، وكثيرون غيرهم واللائحة تطول والذين ينتظرون.
تبقى كلمة قبل الختام من خلال المراجعة النقدية التي التزمناها، نسجل هنا بان التباين الذي بدأ يتنامي بين الفصائل الفلسطينية منذ نشأتها شَكَّلَ اسفيناً زرعه الاعداء، وقصيرو النظر في المسيرة بدءا من النقاط العشر، مروراً بابدال شعار التحرير بشعار الدولة ومنظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني ويا وحدنا، وصولاً الى اوسلو والسلطة والتنسيق الامني، ادخل المقاومة في مأزق التخلف عن حركة الجماهير معطوفة على عدم الاهتمام الكافي للالتزام بالعمل القومي تعبيراً عن الايمان بوحدة الامة العربية
وفي الختام للرفيق الحكيم في عليائه نقول يا معلمنا ويا قائدنا ايها الخالد في ضمير امتنا العربية، اننا واستناداً الى الدروس التي علمتنا اياها في التضحية والاباء، وطريق رحلة الالف ميل التي بداتها، مستمرون في عبورها رغم العواصف والانواء، رغم التضحيات والآلام، ورغم كل الصعاب طالما بقي فينا عرق ينبض.
*مسؤول العلاقات السياسية في حزب العمل الاشتراكي العربي – لبنان
زر الذهاب إلى الأعلى