شارك بمسابقة شهر رمضان المبارك للعام ــ 1445 هـ . ـــ 2024 م . وأربح جوائز مالية نقدية Info@halasour.com
بأقلامنا

كتاب ” أيام الصفاء والضوضاء” للرئيس القاضي الدكتور غالب غانم بقلم: د. سلوى الخليل الأمين رئيسة ديوان أهل القلم

 

لطالما قرأت سيرة أشخاص لامعين، وتعلمت من مدرستهم كيف يكون الجهاد في العمل، بوطنية صادقة وشريفة، وتضحيات جسام أمام كل المغريات التي تصادفهم،إن كانت سياسية أو مالية ، أو ما إلى هنالك من شراء الذمم واستغلال طمع الموظف في العيش الذي يليق. ثم كيف تكون المصالحة مع الزمن الذي يلف الإنسان ضمن دوائره ، التي طالما ترتفع تموجاتها المتماهية مع وميض الحياة، وهي تأنس لمن اتبع أسفارها  المليئة بالجمر ..راسما فوق مدارات الزمن، الخطوط العامودية والأفقية، لمسيرة وطنية، امتزج فيها حب الوطن والعائلة ، بمقاييس المكان والزمان ، فمشى خطاه على وقعهما، بصلابة المؤمن بالله والوطن والعائلة.

هذا هو الرئيس الدكتور القاضي غالب غانم ، رجل المهام الصعاب في زمن اللاوطنية التي عمت البلاد، إذ أقسم أن لا يخادع ولا يتملق ولا ينحني، بل أن يقف وقفة الرجل الوطني الشجاع المثقل بإرث تربوي وأدبي من دوحته الغانمية وعمادها المرحوم  والده الشاعر عبد الله غانم .

فكان بعد وفاة الوالد شغوفا بالعلم كما أخوته ومنهم الشاعرجورج والفيلسوف روبير والقانوني الأديب رفيق غانم إمتدادا لما أرساه والدهم في نفوس تلامذته وأبنائه من قيم ومبادىء ووطنية وخدمة للعامة من الناس،  فكان ولده القاضي غالب غانم أحد أعمدة القضاء في لبنان، وقد حمل  فوق جناحيه المسؤوليات الجسام والمبادئ التي تربى عليها ، وحملها على منكبيه رسالة تعليم ومن ثم تطبيق للقانون والعدالة، التي بقيت صامدة في زمانه بالرغم من تقلب الموازين، حيث أثمرت رحيقا يساقط فوق تلال بسكتنا ووطنه لبنان رائيات يحسب الغمام المكلل هامات صنين، أنها آيات انقشعت عنها الحجب، فأثمرت  نهجا يتبع ، وشعرا يلهج به المتيم ، وأدبا بليغا يلتقطه الزمان، وعراقة محتد ضاربا في أديم الأرض، وعدالة اخترقت الحجب ونادت بالحق الذي يعلو ولا يعلى عليه، فكان هو هو ، الرئيس القاضي الدكتور غالب غانم إبن تلك الأرض والأرومة الضاربة في عمق التاريخ، المحافظ على العهد والوعد ، عهده ووعده لوالده الشاعر عبدالله غانم، صاحب جريدة صنين ومجلة الدهر، الذي ورث أبناؤه عنه عشق لغة الضاد، التي سمت بأشعارهم وأدبهم، حتى أنهم كانوا يلجأؤون إليه في القضاء والمؤتمرات القانونية داخل لبنان وخارجه  إلى كتابة القوانين التي  تحتمل الزحاف ولا التمويه ولا استعطاف المعاني،  إذا ما كتبها القاضي الأديب غالب غانم بلغته العربية التي تشرب نحوها وصرفها ومعانيها وجمالياتها ودقة مفرداتها، منذ كان تلميذا في بسكتنا على يدي الوالد الشاعر ومن ثم في مدرسة الحكمة وثانوية شفيق سعيد الرسمية ومن ثم في كلية الحقوق وكلية الآداب  في الجامعة اللبنانية، حيث بز أقرانه بتفوقه المستمر وبدهشة أساتذته في امتحانات الشفهي في كلية الحقوق أمام أساتذة،هم من أساطين القانون في لبنان عنيت الدكتور بترو ديب والدكتور صبحي محمصاني والدكتور إدمون رباط وغيرهم من فطاحل ذلك الزمن علما ومقدرة، بحيث كان التعويل، كما يقول الدكتور غالب غانم في كتابه (ص. 159) : (… على الإجتهاد والكفاءة دون سواهما، مع بعض القساوة التي طبعت بعض الأساتذة، وقد تكيفنا معها، والرحمة طبعت بعضهم الآخر، وقد استقبلناها بطيبة خاطر) .

كانت وصية الأب ،وهو على فراش الموت، للوالدة ، والصبي ما زال في سنينه الدراسية المتوسطة ( أن أكملي علم الصبي.)هذا الصبي الذي أصبح رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس مجلس شورى الدولة ، الدكتور في الأداب، الحامل العدالة بميزانها القويم الذي لا يخطيء، المتدرج في المناصب القانونية دون منة من أحد سوى علمه ومناقبيته ووطنيته التي لم يحد عنها قيد أنملة ، حتى لو كان المتصل في أعلى المناصب الحكومية ، لهذا أجمع عليه الجميع وتم ترشيحه لوزارة العدل ووزارة الداخلية من قبل رؤساء الجمهوريات ورئيس مجلس النواب زميله في دراسة القانون، لكن كانت السياسة اللبنانية تحول دون ذلك في آخر اللحظات ، وبهذا خسر الشعب اللبناني فيه منقذا للعدالة والقانون والوطن على حد سواء.

الرئيس القاضي الدكتور غالب غانم ، عرفناه أديبا راقيا ، ومنبريا فذا، وخطيبا لا تخونه الكلمات ، إذ كان  يتعامل مع الكلمة بلطافة وعذوبة واحترام للغة العربية، أين منها عذوبة العاشق المتيم بمعانيها ومفرداتها وبلاغتها وسجعها وجماليات عباراتها ، التي كانت تهل علينا كوهج السلافه، ابتهالات عشق  لاهف إلى زنبق المفردات، يطويها بيراعه، فتبرز باقة كالجمان، تزين الأجواء ، أجواءنا الأدبية الراقية.

كتاب أيام الصفاء والضوضاء، للرئيس القاضي الدكتور غالب غانم، هو كتاب سيرة ومسيرة، جسدها في كتاب مؤلف من 495 صفحة ،صادر عن دار سائر المشرق. يوم بلغت بصدوره اقتنيته بسرعة، كي أطلع على مسيرة رجل من وطني، شكل في مسيرة لبنان  الثقافية والفكرية والقانونية  مثالا يحتذى.

إنكببت على قراءته بولع المشتاق للأدب الرفيع و البليغ، وللسرد الممتع بجمالية السبك وانتقاء العبارة التي تؤانسك ، ودقة التصوير بيراع استطاع أن يختصر مسيرة حافلة بالعطاء والوطنية الصافية ويقذفنا بها بلسم إلهي عز وجوده في هذا الزمن المتخم بالعثرات، وحيث في كل صفحة من صفحات كتابه تتراءى للقاريء شواطيء حب يستريح إليها، فتشعر أنك ما زلت تعيش في الزمن الجميل ، زمن الرئيس القاضي الدكتور غالب غانم  بكل إرتحالاته، من فوق جبل صنين في بلدته بسكتنا حتى ساحل بيروت ، التي عرف حاراتها وشوارعها وكل عاداتها وتقاليدها ، حين كانت بيروت واحدة موحدة، كما لبنانه الذي أحب ورسم تقواه أيقونة على شغاف قلبه، متدثرا سنوات العمر التي أرادها .. هي التاريخ والمجد للبنان.

كتاب أيام الصفاء والضوضاء، كتاب لا تمل من قراءته، بل ترتاح وانت تقرأه، ترتاح لحكاية رجل من بلاد الأرز ثابر على مواطنته سلوكا وعلما وعملا ، فكان الأنموذج الذي يحتذى بمساره ومسيرته ، من حيث التربية البيتية القائمة على الأحترام والتهذيب ، والجرأة في إعلاء الحق  أينما كان ، والأجتهاد دراسة وعملا يحتذى به، حتى أنه كان المتفوق دائما، ويصح أن نقول عنه : أنه قدوة لكل  من يبغي خدمة وطنه لبنان .

فالرئيس القاضي الدكتورغالب غانم ليس من الأثرياء، بل هو إبن العائلة المتوسطة المكافحة والرصينة ، لم تغيره المناصب العليا التي تبوأها، ولم تغريه مظاهر الحياة المخادعة، فهو الأصيل ابن الأصل، المتحدر من عائلة كلها شعراء وأدباء ، وبالتالي لم تغره المظاهر الخادعة التي نشرت أشرعتها فوق مراح الوطن حيث أصبح الكل يشتهي الإثراء غير المشروع، أما هو فأكتفى بما يسر له طموحه وعلمه ومركز من عيش كريم ، غير مبال بأن يكنز المال الذي ليس من حقه الحصول عليه ، وبالتالي هو الباقي دائما وأبدا  فارس منابر وعلما من أعلام الثقافة في لبنان، وقانونيا يسترشد به في المسالك الصعبة والمهمة.

وهنا يحضرني قول للإمام علي بن أبي طالب”ع” حين ولي الخلافة إذ خطب في الناس  قائلا:

“دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الافاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت ، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كاحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه امركم”.

هكذا كانت مسيرة القاضي غالب غانم علما عاليا ،وأدبا تجلى فوق المنابر، وقضاء يشهد أنه دخل إليه نظيف الكف وخرج منه ولم يتلوث .

زر الذهاب إلى الأعلى