“خيي” محمد السمَّاك بقلم الشاعر هنري زغيب

“خيي” محمد السمَّاك
“أَزرار” رقم 1328
“النهار”
الجمعة 6 أَيلول 2024
في الأَول من حزيران الماضي قال البطريرك بشارة الراعي: “لبنانُ بات بلدًا طبَقيًّا، ومجتمعُهُ صار عصيًّا على الحلول كأَنَّ الأَزمات أَهْوَنُ من الحلول.. الإِشكاليةُ أَنَّ عناصرَ تأْسيسيَّةً تُكوِّن الأُمَّةَ هي التي تُفَرِّق بين اللبنانيين.. وحين انتفضَ الشعب لتحسين وضعه بالانتخابات، اختارَ الأَسماءَ المغلوطة” (خطابه “من لبنان الساحة إِلى لبنان الوطن” – مؤْتمر “التجَدُّد للوطن”).
وقبل خمسين سنة (1974) قال الإِمام موسى الصدر: “جاء الاستقلال واختِير للبنان نظامٌ طائفيٌّ اعتُبِرَ الأَكثرَ انسجامًا مع واقعه الفئوي والقبَلي والعائلي قبل الاستقلال، واعتُبِر هذا النظامُ الطائفي ضمانةً للعدالة.. لكنَّ الممارسة العملية أَكَّدَت أَنَّ أَكثر الذين توَلَّوا المسؤُوليات لم يكونوا عند حُسْن ظَنِّ الوطن الصغير الطامح إِلى الدور الكبير” (حوار معه في جريدة “الحياة”، عددها السنوي سنة 1974 – المصدر: “مركز الإِمام موسى الصدر للأَبحاث والدراسات”).
هذا الأَعلاهُ يعني أَنَّ الطائفيةَ الْكانت تتحكَّم بلبنان ما زالت مْطْبِقَةً على التفكير بالسوى، يتجاذبُها مَن يُسيْءُ اللبنانيون انتخابَهم دورةً بعد دورة فَتَتَنَاسلُ الدورات المغلوطة، وتظلُّ النظرة إِلى “السوى” أَنه خصْم في الوطن عوض أَن تكون إِلى “الآخَر” في الوطن، نختلف وإِياه على الأُسلوب ونُبْقي على قِيَم المبدإِ الأَول/الأَساس/الأَصل: الحفاظ على هذا الكيان الذي يُقَزِّمُهُ البعض إِلى جغرافيٍّ فقط، والبعضُ الآخر إِلى ديموغرافيٍّ، فيما جوهرُه الإِنسانُ الذي يَبْني ويغادر فيُكمل بناءَهُ ذووه جيلًا بعد جيل.
وسْط هذا الضباب الكثيف، انقشَعَت شعاعةٌ وضَّاءَةٌ من الدكتور محمد السمَّاك تَحْمل مَرهمًا وطنيًّا ناجعًا في كتابه الجديد “الوثائقُ الإِسلاميةُ والعلاقةُ مع الآخَر” (222 صفحة قطعًا كبيرًا – “دار المقاصد”- جمعية المقاصد الخيرية الإِسلامية – بيروت).
أَهميةُ الكتاب ضَمُّهُ وثائقَ إِسلاميةً صادرةً عن مؤَسساتٍ إِسلاميةٍ مرجعيةٍ مواكبةٍ عصرَنا هي – منذ الوثائق الإِسلامية التأْسيسية – تُثْبتُ أَيضًا وأَيضًا حقيقةَ الإِسلام دينَ حوارٍ وإِيمانٍ يَحْفظ كرامةَ الإِنسان مواجهًا تَطَرُّفًا اعتبرَتْهُ المرجعياتُ الدينيةُ “عَدُوَّ الإِسلام وعَدُوَّ الإِنسانية”.. ومن التجديد في الاجتهاد الإِسلامي حول الدين والدولة والمجتمع المتعدِّد، تولَّى محمد السمَّاك البحثَ في المواطنية، ارتكازًا على “وعي التعدُّد الديني منذ دولة المدينة النَبَوية حتى القبول بالاختلاف والتنوُّع في دولةٍ مَدنيةٍ قِوامُها احترامُ الأَديان وحريةِ علمائها وأَعلامها تحت سقف سلطةٍ لادينية” (ص 33). وبهذا الانفتاح المتنوِّر عالج مسأَلة المواطَنَة في المجتمع المتعدِّد بأَنَّ “الإِسلام لا يقول بدولةٍ دينيةٍ يتولَّى الحكمَ فيها رجالُ دينٍ باسمِ الله أَو بوكالة منه أَو عنه” (ص 162).
إذًا: هو “الآخر” نبني معه الدولةَ بانفتاحٍ وتَكامُلٍ وليس باعتباره من ضفة أُخرى مقابلة أَو معادية. فــ”الاختلاف في المعتقدات والثقافات والطبائع وطُرُق التفكير إِنما هو قدَرٌ إِلهيٌّ قضَت به حكمةُ الله للتعامل معه بمنطق العقل والحكمة في ما يوصل إِلى الوئام والسلام الإِنساني” (ص43)، كما جاء في “وثيقة مكَّة المكرمة” (24 رمضان1440 هـ/29 أَيار 2019).
وإِذ يتبصَّر محمد السمَّاك في وثيقَتَي الأَزهر الشريف (شيخُهُ أَحمد الخطيب) والإِرشاد الرسولي (البابا فرنسيس) الصادرتَين في 4 جمادى الأَول 1440هـ/4 شباط 2019 (صورتُهُما في أَعلى هذا المقال) وقبْلهُما وثيقة جمعية المقاصد “إِعلان بيروت للحريات الدينية” (22 حزيران 2015) يَخْلُصُ إِلى أَنَّ الجوهرَ هو المواطَنَة لا الذِمِّية التي “لم تكُن نصًّا شرعيًّا فقْهيًّا ولا جزءًا من العقيدة الدينية الإِسلامية” (ص 210).
“مَرهمٌ وطنيٌّ” كتاب محمد السمَّاك، قلتُ في بداية هذا النص؟ بل أَكثَر: شفاءٌ من الأَورام الطائفية الخبيثة والجراثيم الطارئة على جوهر الدين، ليكونَ لبنانُ واحةً خصيبةً لتعاليمَ دينيةٍ متعدِّدةٍ لا تتحجَّج بـ”تَبَدُّلات الديموغرافيا” ولا تقارعُ بـ”شهوات الجغرافيا” بل هي ضوءٌ مبارَكٌ في لبنان الحضارة الذي يَجعلني أُلاقي “الآخَر” في المواطَنَة اللبنانية فأُخاطبُه بـــ”خيِّي” محمد السمَّاك.
هـنـري زغـيـب






