بأقلامنا

وداعاً دولة الرئيس سليم الحص بقلم د. سلوى الخليل الأمين

هي التسعون.. مرَّت كحلم… يوم حملت السكون ولبست رداء الوطن، ثم تخطّيت مزامير الحياة المفتوحة على فجر الضمير المكلل بالحب لهذا الوطن الذي أحببته حتى الثمالة، وإن خذلك بعض النفعيين.
هي التسعون.. لم تمهلك كي ترى لبنان كما حلمت له أن يكون، وطنا لكل أبنائه دون استثناء، حيث لا طائفية تعلو فوق كفاءات بنيه وإبداعاتهم، ولا مذهبية تشدّ الناس لزمن الجاهلية، بل وطن مكلل بالحب لجميع الأبناء المتحركين عبر كل الفصول، يحاكون الوطن بضمير حيّ يسترجع ما كان له من مجد مضيء عبر صفحات التاريخ ، حيث العودة لزمن كان فيه لبنان سيدا بين الأوطان.
أتاك الحكم يهرول على ضفاف علومك المنتقاة، حيث لم يكن العلم لديك حينها شهوة لإرتقاء سلم المسؤولية التي أنت أهلا لها، ولا دربا لمجد قد يزول يوما، بل أردته دربا ثابت الخطوات لاعتلاء القمم، بكل القيم والمبادئ الوطنية، التي رفعتها عنوانا كبيرا، بعيدا عن الخلافات والمذهبيات والكيد، وكنت.. كنت كمن يحاور السراب، حين كان توقك لوطن معافى، مرتفعا إلى حدود السماء
حملت ثقافتك وخبرتك في عالم الاقتصاد وعلومك العالية كي تخطّ للوطن مسارات جديدة، تثبت حقيقة الإنسان اللبناني المبدع في وطنه، عوض الهجرة بعيدا.. بعيدا.. في ديار الله الواسعة، وجعلت ما تؤمن به سيفا في وجه الباطل، يبحث عن الكفوئين من المواطنين في زمن الجهل والغطرسة وعدم المسؤولية، إلّا عند الأقلية.. من أبناء هذا الوطن، الذين مشوا معك غير آبهين بعلو المراكز وتسلق القمم، وذلك من أجل بناء الوطن الجميل لبنان.
خذلوك يا دولة الرئيس، لكنك لم تذعن لهم وبقيت كما أنت، العنوان الكبير لسلام النفس الأمّارة بالعطاء والخصب لوطن أحببته وعملت من أجله، كي يبقى عاليا وشامخا وقبلة الأنظار في هذا العالم المحيط بنا، أي وطن الإبداع والاشعاع والنور.. بحيث يبقى المثال لكل عابر لمراحك الآمن ودربك المنير.
تربعت فوق القلوب، قلوب الناس كل الناس، الذين رأوا لبنان كما رأيته وطنا يستحق الحياة، أما الاخرون فقد رأوه كنزا من التبر، يستغلون خيراته لتعبئة جيوبهم، حين لم يغرك الذهب ولا المال، وكنت على هذا الأمر بمستطيع، لكن جعلت ضميرك حيّا ووطنيتك قائمة في زمن موت الضمير وانعدام الوطنية، فاستعنت بالصبر واستسقيت الحق بشيرا ونذيرا.
وداعا يا ضمير لبنان.. رحلت غير مفارق ، في زمن الظلمات والقهر الذي يغلّف وطنك وشعبك، وكان رحيلك طعنة لمن استباح هذا الوطن المنكوب عبر رجال أضاعوا البوصلة التي ترشدهم إلى سواء السبيل، حين كنت وحدك من رجال السياسة تعيش كما كل الناس الشرفاء المتواضعين المحبين لوطنهم، بحيث بقين معك النور الذي يضيء الظلمة في الليالي الحالكات والأمل عند الكثيرين محبيك ومؤيديك وقادريك الذين أمنوا بك زعيما ومسؤولا ولم يطلبوا شيئا لأنفسهم بل كان همّهم الوطن كما علّمتهم وكما أردت للحياة أن تكون.. صحوة ضمير ليس إلّا، من أجل بناء الوطن على أسس ثابتة بحيث تكون الكفاءة هي المعيار.
كنت الحريص على الثقافة وأهلها ومحبيها ومريديها، وكنا نجدك مشجّعا وحاضنا ومتبصّرا المستقبل، الذي هو لأصحاب الكلمة الناطقة بالحقيقة، وكنت نصير المثقفين الذين تغاضت الدولة عن حركتهم الفاعلة من أجل بناء الوطن على أسس سليمة، لهذا كنت الحاضر دائما والمحاضر في مهرجانات ديوان أهل القلم، لأنك كنت متيقنا من حسن الأداء والرؤى الثاقبة التي تخدم الوطن ولا شيء سواه.
بقيت وحدك من رجالات السياسة تصارع كي يبقى لبنان شامخا، وكي يبقى شعبه مؤمنا بالعدالة التي لا بد آتية، وإن طالت الظلمة واغبرت المسارات، لهذا كنا نقطف من مسيرتك أضواء العافية التي ننتظرها بكل الصبر الذي نحن عليه والذي تعلّمناه من مدرستك الثابتة كقلاع لبنان التي لا تندثر مع الزمن المربك ولا تهتز للعواصف، بل تبقى شامخة تحدثنا عن عظمة لبنان ومن مروا ومن خلفوا بعدهم.. وأنت المثال.
نعم لقد رحل الرجل النظيف الكف والوطني، الذي ما استطاع أحد أن يساومه على أخلاقياته المثلى التي بذلها مؤمنا بوطنه لبنان وشعبه الأبي وإن خذله بعض منه في الانتخابات، إذ بقيت في أذهان الناس الشرفاء والوطنيين قمة في الوطنية والمناقبية والإخلاص، الذي مارسته عن قناعة، لا ابتذال بها، ولا تشوبها أي شائبة، بل كنت مؤمنا بالخط المستقيم الذي رسمته لحياتك وعكسته عبر مسيرك في الحكم عدالة ومناقبية وضمير حي، عكس كل رجالات السياسة الحاليين في هذا الوطن المعفر بالتراب، الذي أسمه لبنان.
تراني أقف في دائرة ضوئك، فألمح الأحلام التي كنت بها مؤمنة، قد امتلكتها وحدك دون الآخرين، لهذا كنت من الأوفياء لخطك ونهجك المستقيم، بحيث لا تلسعني النار مهما اشتدّ أوراها، لأني آمنت بك كرجل سياسي حمل إيمانه ودينه ووطنيته وإنسانيته سراجا منيرا، يهتدي به كل من آمن بهذا الوطن وكل من عاش وسط الظلام، كي يهتدي بخطك ونهجك وضميرك وإنسانيتك وإيمانك بهذا الوطن الذي خدمته دون منه، فإنسانيتك وتربيتك الوطنية ودينك السمح جعلوك القدوة لرجال السياسية في كل عصر وزمن.
كيف لي أن أنسى ما فعلته من أجلي يوم ظُلمت في الإدارة العامة وكنت من المجلين في عملي حيث رشحتني كي أكون سفيرة من خارج الملاك وقلت للوزير حسن شلق يجب أن ننصف سلوى وهي تستحق، وأرسل الوزير شلق يطلبني إلى السراي الحكومي وقال لي ما سمعه من الرئيس الحص وكنت فعلا متفاجئة بهذا الفعل إلّا أن مستشار الوزير لحقني وأنا أخرج من مكتب الوزير قائلا لي: يجب عليك القيام بزيارة… ولما عرفت أن القضية لا يمكن أن تتم، رفضت القيام بالزيارة لأني أؤمن بقدراتي وكفاءتي التي لا يحددها المسؤول الطائفي الذي أنتمي إليه مذهبيا، علما أنني أرفض هذا التصنيف، كما أنني أرفض المحاصصة في الوظائف العامة وأهليتي في الوظيفة يحدّدها إجتهادي في عملي لأنني أؤمن بخدمة وطني لبنان وليس الخضوع لأي زعيم سياسي مهما علت رتبه.
في العام 2018 ترشحت للانتخابات في دائرة بيروت الثانية وقبل أن أعلن انتسابي لأي لائحة ذهبت وشاورته فأثنى عليّ وبارك لي وقال فلتجرّبي لأن المرأة يجب أن تصل لموقع القرار وأنت مستحقة. هذا هو الرئيس الدكتور سليم الحص الذي عامل الجميع من جميع المناطق اللبنانية كأصدقاء، وكنا بالفعل أوفياء لخطه ولنهجه المستقيم، بل كنا منبهرين به، إذ كيف يفكر هذا الرجل في وسط هذه الغابة الملأى بالذئاب البشرية.
لن ينتهي الكلام وفي جعبتي الكثير الكثير، لكن عليّ أن أقول: رحلت إلى دنيا الله الواسعة والرحبة حيث جنة النعيم مثواك، وحيث استقبالك في جنانه، يعزّ نظيره، لأنك كنت المؤمن بتعاليم الله وهديه المستقيم دون تعصب، بحيث لم تزح قيد أنملة عن الصراط المستقيم.
إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون.
* رئيسة ديوان أهل القلم
المصدر جريدة اللواء / 30 آب 2024
زر الذهاب إلى الأعلى