بأقلامنا

كلمة الاستاذ عمار ياسر نعمه بمناسبة ازاحت الستار عن نصب محمد الزيات في صور القاها نيابة عن رفيق درب الزيات الاستاذ ياسر نعمه

 

تحياتي لهذا الحفل الكريم وشكرا لكل من لبّاه من محبي محمد الزيات وصور.

بكلمات تختزن حرقة الحاضر والماضي، لكن تفاؤل المستقبل، بحب لم يفتر يوماً منذ رحيل رفيق دربه قبل واحد وستين عاما، وبابتسامة تلاقي سعادة استذكار الصديق الأعز، أمس واليوم وغداً، حدثني ياسر نعمة طويلاً في الأيام الأخيرة عن محمد الزيات قبل شروعي في كتابة هذه الأسطر.

يعتصر الرجل الذي أكمل التاسعة والثمانين ودخل في التسعين، ذاكرته الحيّة ليروي عُصارة تجربة الفتيين ثم الشابين، أخوّة ونضالاً، ببدايتها العذبة البريئة النقية كما بخاتمتها المفجعة مع غياب محمد الزيات، وهي النهاية التي ما زالت تترك ندوبها المؤلمة في وجدان ياسر نعمة ولو بعد كل هذا الزمن.

تلك الصداقة شكلت تعبيرا صارخاً ووجدانياً عن نضال ذلك الزمان. زمان ربيع الثورات القومية العربية ونضالاتها ضد الاستعمار والصهيونية، كما ضد الاستعمار الداخلي الذي نصّبه الخارج على اللبنانيين بعنوان الإقطاع الذي، للمفارقة اليوم، سقط مع توالي السنين بطيف محمد الزيات نفسه وبنضال من تبقى من رفاقه.

فليس من باب المبالغة أو الإدعاء أن نقول إن سقوط الإقطاع الذي لم يشهده محمد الزيات لكنه ورفاقه اليافعين والمتحمسين، شباب الأفكار القومية اليسارية الملتهبة والمتفانية، قد أسسوا لهذا السقوط ووضعوا اللبنة الأولى له في خمسينيات القرن الماضي وستينياته.

كان الزيات مثال مناضلي ذاك الزمان. يصف ياسر نعمة علاقته به بالإخوية قبل النضالية التي كانت سبب تعارفهما، وهو الذي رافقه بمراحل مختلفة من الآمال حتى الآلام الأخيرة التي لم يصدق أحد خاتمتها بمن فيهم الزيات نفسه. ليس لأنه خشي الموت، بل لأنه آمن بعدالة حياة وبدرب طويل وشائك كان على القدر إمهاله لسلك النصر فيه.

كان الزيات شاباً منطلقاً يشتعل حيوية، عاش السياسة بكيانه كنمط للحياة. وهو بلغ سريعا مرحلة نضوج فكري وتنظيمي متقدمة عن غيره فاحتل مكانته المحلية في صور ومنطقتها ومخيماتها. صور التي كانت المتنفس الأكبر ضد الإقطاع المحلي في هذا الجزء من الجنوب فطاف الزيات القرى والبلدات والمدن في بلاد عاملة وخارجها مبشراً وواعظاً من دون تكلف بل بعاطفة نقية. بنى صلات وثيقة بكل من آمن بالقضية نفسها مهما اختلف عنه عقيدة ونهجاً. من هنا جاءت علاقته بحركة الامام المغيب موسى الصدر التي كانت ما زالت في بداياتها، ويروي لي ياسر نعمة الكثير من خفايا الاجتماعات التي كانت تجمعه ومحمد الزيات مع السيد موسى كما مع الخلايا السرية للثورة في صور ومنطقتها.

ومن صور تحديدا انتقل الزيات الى رحاب العروبة الأوسع ليتربع على مكانة لم يسعفها الزمن والقدر والظروف لكي تتبلور بعدالة لكي تتخذ من القدر حقها. وأسس مع قوميين عرب كبار مثل جورج حبش ووديع حداد تياراً عروبياً اشتهر كثيرا في ذاك الزمان وأعني هنا “حركة القوميين العرب” التي شكلت نبض الشارع العروبي الصادق حينها.

لم يكن الزيات مؤدلجا بقدر ما كان اشتراكيا يمثل نبض الشباب بمعنى توقه إلى العدالة الاجتماعية، لكنه كان، وهذا مهم، بعيدا عن الحقد الطبقي ولا يهدف الى الانتقام بقدر ما يريد رفع الظلم عن الكادحين والمزارعين والمهمشين والمحرومين والمهمشين والمعلمين والسائقين العموميين فكان يدعو الى التلاحم مع تلك الطبقة. وهنا للذكرى دعوني أذكر أنه تبنى قضية الأميين الذين أسس لأجلهم معهد تعليم الأميين ودعا الى ان يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم وان لا يستسلموا لظروفهم.

نستطيع وصفه بالمثقف الطبقي الذي واجه الظلم الطبقي في لبنان وفلسطين، وآمن بعروبة وحدوية في وجه ناهبي الأمة، وليس بعروبة سلطوية كما اتجهت الأمور بعد ذلك. بالنسبة له لم يكن لبنان منفصلاً في مصيره عن الأقطار العربية الاخرى، وبذلك عاش قضايا الأمة كوحدة حال ومصير. فكان تعصبه لفلسطين هو تعصب للعروبة وبالعكس وفي أي شأن عربي.

لم يكتف بحب فلسطين من بعيد بل تذوق، وهو الرياضي الممشوق المقام، نسيم ترابها في رحلة في القدس وبيت لحم والخليل، وكان واثقا عن قرب بالتحرير ليس لفلسطين فقط بل للوطن العربي بأكمله. فكان لبنانيا من فلسطين وفلسطينيا من لبنان، ولبنانيا من العرب وعربيا من لبنان.

سخّر محمد الزيات حياته العائلية وعلاقاته الشخصية في سبيل قضيته، فكان دمثاً وحنوناً ومن تعرف عليه عن قرب اكتشف أن صلابته الظاهرة كانت تخفي وراءها عاطفة الى اقصى الحدود هي التي تفسر راديكاليته في صراعاته مع السلطة حينها ومع كل ظالم.

يروي ياسر نعمة على هذا الصعيد أن محمد الزيات اشتهر خلال الصدامات العنيفة في الشارع بعدم المساومة وكانت جملته الشهيرة في وجه محاولات السلطة تدجين مطالب الناس: لا نريد “أسبرو” منكم، يكفي هيمنة وتسلطا وسرقة لخيراتنا ولحقوقنا. والأسبرو عُرف في ذلك الحين بمسكن الآلام الذي لا يعالج المرض بل يخدر الألم، وبذلك كان محمد الزيات يريد استئصال الداء أي إسقاط السلطة المفروضة على الناس وليس حلولا ترقيعية جزئية.

كان الزيات يدخل معاركه باستشهادية نادرة فدخل ورفاقه معركتهم مع السلطة الحاكمة حينها غالبين أم مغلوبين، فانتصرت السلطة بتزوير الانتخابات لكنها، وهذا الأهم، لم تتمكن من إعادة عقارب الساعة الى الوراء. كان حاجز الصمت قد كُسر ومعركة الوعي قد كُسبت ودشن القوميون العرب ومعهم الوطنيون واليسار زمنا جديدا أثمر انتصارات منذ سبعينيات القرن الماضي مرورا بثمانينياته وصولا الى تحرير الانسان وتحرير البلاد من الاحتلال بمقاومة وطنية جامعة..

في أيامه الأخيرة شعر محمد الزيات بوطأة المرض الذي ضرب عميقا في جسده، لكن المرض لم يضرب ثقته بنفسه وهيبته فلم يهزمه نفسياً كما يؤكد كل ما عاش لحظاته الأخيرة.

كان ياسر نعمة يتنقل ب بمحمد الزيات من صور الى مستشفيات بيروت، وكان العظيمان جورج حبش ووديع حداد، وخاصة الأخير، يشرفان على علاج الزيات حتى أن حداد خاطبه قائلاً في فترة الاحتضار قبل الموت بلحظات قائلاً: نم أيها بطل. طابعا قبلته على وجنته ومؤمنا بأنها ليست سوى محطة مؤسفة على طريق النضال.

اليوم يحضر السؤال: هل كان محمد الزيات سيقارب قضاياه كما قاربها قبل نحو سبعين عاما؟ وهذا السؤال يستحضر سؤالا آخر لعله أكثر أهمية: هل ما زالت تلك القضايا حاضرة أصلاً لدينا؟

لقد آمن محمد الزيات بأن التحرير مقبل لا محالة وبأن مستقبل العرب سيكون واعداً، ولذلك فإنه لو قدر له أن يبقى حياً بينناً فإنه سيكون حتماً من جديد الى جانب القضايا العربية وعلى رأسها قضية المقاومة لتحرير فلسطين وكل أرض عربية. لكنه أيضا كان ليتخذ جانب الشعب العربي التواق الى الحرية والديموقراطية والى لفظ الفساد في كل قطر عربي، وليس لبنان خارج هذه الرؤية في عصر إعلاء شأن الإنسان قبل الإيديولوجيات والعقائد. فلا تحرير للأرض من دون تحرير الإنسان، ولا مقاومة من دون بناء داخلي ومن دون تنمية بشرية ومن دون وفاق طوائفي على طريق الدولة الوطنية المدنية لصالح الإنسان.

ختاما تبقى العبرة في التاريخ بأنه يحفظ أبطاله ولو لم ينتصروا في حروبهم وها هو محمد الزيات نستذكره معا بعد واحد وستين عاما على غيابه وهو بيننا، أمس واليوم وغداً.. وهو سيبقى بيننا دوماً وأبداً.

كل التحية بإسمي وبإسم ياسر نعمة لمن أحيا هذه المناسبة ولكل القيمين على هذا الاحتفال. إنه تكريم لجيل بكامله ولمدينة احتضنت الجميع. وأريد أن أخص بالذكر الحاج الحبيب والأصيل والمحب الحاج عفيف الزيات، القادم من الماضي العذب والمنطلق دوما نحو المستقبل بنشاط الشباب وباندفاعته القومية العربية التي لم يكسرها الزمن.

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى