بأقلامنا

مقطع عن نهر شحور الغالية بقلم الكاتب الحاج كامل خليل

مقطع عن نهر شحور الغالية ورد في كتابي “بيادر التعب “:
قرب هذه الصخرة العتيقة، التي تحدثك عن آلافٍ من السنين الغابرة، كنت مستغرقاً في بحرٍ من الخيال، أقلب في صفحات ذاكرتي المتعبة، أيام الصبا والطفولة، يوم كنت أرمي بنفسي من منتصف الطريق، لأصل إلى ضفة النهر، فأقفز في الماء، معلناً بداية النهار، كنت أصل مع الشمس، وأحياناً كثيرة كنت أسرع من شعاعها في الوصول، إلى هذا الوادي الكتوم، الذي يخبىء بين جنباته، أسرار الليل المظلم، وحكايا الوحوش التي ترتاده في الليل، وتمتمات الطيور، التي تدلف إليه للمبيت، وتنتظر الصبح كي تنطلق، إلى يومٍ جديد….، وما إن تعتلي الشمس، وتأخذ مكانها اللائق بها، في سماء الصيف الصافية، وتطأ حرارة الشمس خد التراب، حتى تبدأ قوافل الأحبة بالوصول.
كنت أسبق أمي، لآتي لها ببعض الحطب، كي توقد تحت برميل الغسيل الأبيض، وما هي إلا بضع عشرات من الدقائق، حتى تطل من كتف الدرب، ومعها ” لكن” الغسيل النحاسي، تحمله فوق رأسها، فوق إكليل من التعب الممزوج بحلاوة السعادة، وفيه ثيابٌ، ولوازمٌ، وزاد اليوم الطويل، ومعها بعضٌ من نسوة القرية، اللواتي تواعدن على اللقاء، قرب المطحنة، أو في المغسل الوسيع، أو على لطمة القرناصة، وهنا، قرب سيرة الغمق….
تذكرت عبق العيزقان الأخضر، و رائحة الدخان الأبيض، المتصاعد من حريق الفاقوع والبلان، ويباس الحطب العتيق، وأمعنت في الذاكرة، فرأيتهن، وقد فرغن من الغسيل، وقمن ينشرن الثياب…، فرأيت الجبل مغطىً، بقطعٍ بيضاء، مناديل، وثياب صلاةٍ، وثياباً مزركشةً، تستلقي فوق الطيون الأخضر، وترسم بألوانها الزاهية صورةً للحياة الجميلة، والأمل المشرق، وقد بدأت كل واحدةٍ منهن، بالتحضير لطبختها، لتمتزج روائح الأكل الشهي، برائحة الليمون، في بستان أبي مزيد، وأعشاب الصيف النابتة قرب الماء…
وأنا أغوص في ذاكرتي، همست لي من بيعد…، صفصافةٌ عتيقةٌ، نبتت قرب الماء، من جذر جذرٍ عتيقٍ، وقالت ساخرةً : ” ويحك أي ذاكرة هي ذاكرتك…، قم وإذهب إلى شجرة الدلب تلك، ودعها تحدثك…، أو قل إذهب إلى ذلك الجلمود الكبير…، واسأله عما شهده في العقود، بل القرون السابقة…، ليحدثك عن أبيك، وجدك، وأجدادك الأوائل…، عن رجالٍ سكنوا هذه الأرض، بل عن رجالٍ عمروها، وشقوا هذه الدروب، واستشكفوا هذه المناطق الجميلة في طبيعة بلدتك…، سله عن أول راعٍ وطأ هذا الخراج البعيد، حين قصده ليروي قطيع غنمه…، سل التراب المتراكم هنا، كومةً فوق كومة…، كم عمره ؟ ومن أين أتى؟ من أي زقاق من أزقة بلدتك؟ ، وقد حمله السيل وحط به هنا، سله، هل يشتاق إلى وقع أقدام أولئك الأطفال الذين كانوا أجداداً لأجداد أجدادك، حين كانوا يخرجون إليه كل يوم ليلعبوا فوقه، سل النهر الجاري منذ قرونٍ، بل منذ آلافٍ من السنين، كم مر بشرٌ من هنا؟، وكم أكل شخص هنا ؟ وشرب شخص هنا ….
قلت عذراً أيتهاالصفاصفة…، فأنا قاصرٌ أمام ذلك التاريخ الذي تتحدثين عنه، وصغيرٌ أمام أولئك الكبار الذين تصفينهم…، وحده النهر، يحق له أن يكون صاحاب الذاكرة الأقوى، والشاهد الوحيد، بل الكاتب الوحيد، الذي يستيطع أن يعبر، ويؤرخ، ويوثق… وليكتب اليوم أيضاَ، أن أهالي شحور، دار العز، أحفاد أولئك السابقين السابقين، قد زرعوا على جنباته الخير، وهم يزرعون لأجيالٍ ستأتي…، ستحكي يوماً ما، ما نحكيه نحن اليوم عن الأجداد ….
زر الذهاب إلى الأعلى