فصولٌ من “المعلم عبدالله” بقلم الشاعر هنري زغيب

فصولٌ من “المعلم عبدالله”
“أَزرار” رقم 1351
“النهار”
الجمعة 14 شباط 2025
ما المسافةُ التي تَفرض على الكاتب ابتعادَه عن “أَنا”ـهُ حين يكتب عن أَحدٍ من أُسرته، كي يظلَّ في كتابته رفيقَ القارئ في رحلة الكتاب؟ وكيف يمكن الدارس أَن ينفصل عن مدروسه؟
غالب غانم نجَح في الحالتَين. وإِخال القاضي فيه هو الذي أَعانه على قَولة الكلمة/الفصل في رسم تلك المسافة كاتبًا عن والده الشاعر، هو الأَصدَرَ عنه قبل 30 سنة كتابه الأَول “شِعر عبدالله غانم – دراسة في البُنية والمحاور” (435 صفحة حجمًا كبيرًا – منشورات الجامعة اللبنانية – 1995)، وها هو قبل أَيام أَصدَرَ عنه كتابَه الآخَر “المعلم عبدالله” (270 صفحة حجمًا كبيرًا – منشورات “دار سائر المشرق”)، وهو نسْج بيوغرافي كامل لسيرة والده عبدالله غانم في مسيرته الأَدبية والصحافية والوالدية.
وإِن هو باح في مدخل الكتاب أَنه كتَب ما لم يكتبْه والده، فهو نجح في البحث عن تفاصيلَ في سيرة والده، بعينيه هو أَولًا، ثم اقتطفَ معظمها من لُـمام أَوراقه المتروكة، ومن أَفراد الأُسرة ما كان صعبًا ربما على عبدالله غانم تَذَكُّرُهُ لو كان له أَن يضع كتابه الأُوتوبيوغرافيّ.
في تسلسُل زمنيّ سلس، أَمسك غالب غانم بالخيوط الأَقدم في السيرة، راجعًا إِلى ولادة والده في بسكنتا من جرجس عبدالله غانم وكاملة حنكش ذاتَ يومٍ من خريف 1895، في البيت ذاته الذي نشأَ فيه وتَزوَّج فيه وأَنجَب وغاب، البيت الحامل اليوم ذكرياتِ أَجيالٍ من البنين والأَحفاد، ويا طيبَها ملاذًا ومذاقًا برَكة البيت الوالديّ الراني في بسكنتا إِلى تلَّة “ضهر الحصين”.
في تلك البيئة اللبنانية البسكنتاوية الجبلية وعى عبدالله غانم إِرث لبنان الطبيعي والجمالي والأَدبي، فعشِقَ بسكنتَاهُ وخاصرَ الشعر منذ فُتُوَّته وبقي ملازمًا إِياه حتى غروبه الأَخير.
صفحةً بعد صفحة، كأَنْ سنةً بعد سنة، راح غالب غانم، بأُسلوبه الأَدبي العالي كما اعتدناه، يَرسم أَيام والده الفَذّ في شق حياته العائلية والمهنية والأَدبية: أَبًا عطوفًا على أَولاده، مُدرِّسًا لمع حتى بات لقب “المعلِّم عبدالله” هويةً أُخرى له، وصحافيًّا دؤُوبًا على جريدته “صنين” ومجلته “الدهر” (بما في إِصدارهما من ضَنًى مرهِق في صدورهما من بسكنتا وتوزيعهما إِلى بيروت فالعالَم)، وشاعرًا متمكِّنًا بالعربية الناصعة والمحكية اللبنانية التي جعلتْه برزخًا ضروريًا مُجلِّيًا بين زجل رشيد نخلة ومَن سبَقَه، ومحكيَّة ميشال طراد ومَن تلاه، كأَنما شعرُنا باللبنانية كان إِلحاحًا ينتظر عبدالله غانم مبدعًا ينتقل معه من عصر إِلى عصر.
ويكون لــ”مي” فصلٌ خاص من كتاب غالب غانم، نسَجَ عباراته بوفاءٍ بَنَوي ودقَّة أُسلوبية، منذ هي صبيةٌ جارةُ “المعلِّم عبدالله” في الحي ذاته، ثم زوجتُه السعيدة، فملهمتُه حبيبةً وحيدة، فوالدةٌ غمرَت أُسرتَها بحنانٍ جَمّ، وهي سيدةُ القصيدة الشهيرة “دقِّت على صدري وقالتلي افتحو” التي لحَّنها الأَخَوان رحباني وأَطلقاها إِلى العالم بصوت الخالدة فيروز.
يقال الكثير في هذا الكتاب البيوغرافي الممتع، عرفَ الدكتور غالب غانم كيفَ وأَين يقِف بين الابنِ المعتزِّ بأَبيه عن حق، والكاتب الناسج ببراعةٍ خيوطَ سيناريو بأَحداثه وحواراته وتقطيع مشاهده وفصوله جاهزٍ أَن يكون فيلمًا وثائقيًّا كاملَ المواصفات الفنية. فحتى المقاطع الشعرية فيه لم تَرِد لفُسحةٍ نقدية أَكاديمية بل تتمةً للنسيج البيوغرافي.
إِنها فصولٌ ساطعة عن “المعلِّم عبدالله” سيرةً ومسيرةً تُخلِّد الكبير عبدالله غانم الذي انقصف قبل أَوراق الخريف لكنَّ قلم ابنه غالب جعل له في هذا الكتاب أَوراقَ ربيعٍ دائمٍ للمشهد الأَدبي اللبناني.
هـنـري زغـيـب