بأقلامنا

صوتُها الـمُنقِذُنا من اليأْس بقلم الشاعر هنري زغيب

صوتُها الـمُنقِذُنا من اليأْس
“أَزرار” رقم 1336- “النـهار”
الجمعة 1 تشرين الثاني 2024

حدّ تختي جهازُ راديو فيه خمسةُ أَزرار أَدخَلْتُها في ذاكرته لخَمْس إِذاعات. أَولُ ما أَفتَح عينَيَّ على الصباح أُديرها واحدًا فواحدًا: الأَول فيروز في أُغنية، الثاني فيروز في مسرحية رحبانية، الثالث فيروز في ضُمَّة أُغنيات، في الرابع مسرحيةٌ رحبانيةٌ أُخرى، وفي الخامس فيروز أَيضًا وأَيضًا. ولا تكتملُ دورةُ اليوم إِلَّا بصوتها ينسابُ من إِذاعاتٍ وشاشاتٍ (تلفزيونيَّة ومنصَّاتِ تَوَاصُلٍ إِلكتروني) فيُشَكِّل صوتُها نسيجَ الوقت الْلَايعودُ إِلى الوراء فتُنَصِّعُ حاضرَه في وجداننا حتى يَعْذُبَ ويهنَأَ ويَغْضَبَ ويَثُور. ويروح صوتُها طيلةَ النهار وَرَدْحًا واسعًا من الليل يُرافقُني وأَنا أَكتُبُ وأَنا أَقرأُ وأَنا أُفكِّرُ وأَنا أَحلُمُ، وإِذا صوتُها حارسُ النبضة التي منها تولدُ الكتابةُ شِعرُها والنثر.
بين أَصوات الغناء ما لا أَفتقدُهُ إِن لم أَسمعْهُ، ومنها ما لا يُزعجني إِنْ غَفَلْتُ عنه ولَم أَسْعَ إِليه لأَسمعَه، ومنها ما أَبقى حياديًّا حيالَه، إِلَّا صوتها: هو حاجةٌ لي يوميةٌ، ويُحفِّزني على العطاء بما يأْرج فيه من جمالات.
أَقول “صوتها” لأَقولَ ما يحمل مضمونُهُ من شعر الأَخوين رحباني وسعيد عقل – وهو أَرقى الشعر على الإِطلاق – وما يَضُوع به صوتُها من أَلحانٍ نَسَجَتْها عبقريةُ عاصي ومنصور فَغَيَّرَتْ موسيقيًّا وجهَ هذا الشرق.. ولا أُباعد عنهما رحبانيًّا ما غنَّاه صوتُها من أَلحان الحبيب الياس والموهُوب الفَذّ زياد.
ما أَغنى لبنان بهذه النعمة! نعمةِ صوتها الكثير: مَن يَبحثُ عن الصلاة يَجدُ الصلاةَ فيه، مَن يفتِّشُ عن الوطن يلْقى فيه مفهومَ الوطن، مَن يشتاقُ إِلى الشعر يتنسَّمُ أَجملَ الشعر في ما تغنِّيه، مَن يَنْشُدُ الثورة والحرية ونُصْرَةَ المظلومين يَستقيها جميعَها من حواراتٍ تَشهَرُها أُغنياتٍ مرةً، ومراتٍ تُطْلِقها صرخةً سُوطيَّةً في وجْه الحكَّام “الفاتكيين”: “غربة” في وجه “فاتك المتسلِّط” (“جبال الصوان”)، “زاد الخير” في وجه “الملِك غَيْبُون” (“ناطورة المفاتيح”)، الملِكة “شَاكيلا” في وجه المحتلِّين الرومان (“بترا”)، “زنوبيا” في وجه القائد أُورليانوس (“زنوبيا”)، وتُطلقُها دعوةً إِلى “السلام كنز الكنوز” (صبيَّة “جسر القمر”)، أَو تَرَسُّلًا من أَجل الوطن: “بِنْدُر صوتي، حياتي وموتي، لَمَجْد لبنان” (“عطر الليل” في “فخر الدين”)، إِلى سائر ما غنَّى صوتُها الخالدُ فأَوصَلَ لبنانَنَا إِلى أَقصى الهناك، وحمَلَ الرسالة إِلى معظم شعوب الأَرض حُضُورًا ساطعًا فأَشرَقَ في وعي الشعوب هذا اللبنانُ “الزْغيَّر وْوِسْع الدني”.
يا ربّ… يا ربّ… ما أَسخاكَ علينا بصوتها نعمةً.. المؤْمنون فليُصَلُّوا لإِلَهِهِم كي يحفَظَها.. الملْحدون فَلْيتَّخذُوا في صوتها دربًا إِلى الأُلوهة فيُؤْمنوا.. الكافرون بالوطن فَلْيَجدوا في صوتها برَكَةَ أَنْ يكون لنا وطنٌ ففي صوتها الفَرد جموعُ مبتهِلين مؤْمنين بلبنان فَهِموا جوهرَ الوطن بما يصلِّيه صوتُها من شعر عاصي ومنصور. صوتُها الْـمَانِحُنا قوةً وعافيةً وطموحًا، صوتُها الْـمُنْقِذُنا من اليأْس، صوتُها الشَافينا من السُقُوط في الكُفْر بنعمة الوطن.. غابَ من بيننا عاصي ومنصور، فيَا ربّ احفَظْها بيننا عشتروتًا مبارَكَة.
يا الجميعكم: التجئُوا إِلى صوتها، هذه السيِّدة المفْرَدَة بصيغةِ شعب، ففي أَوتاره مَسٌّ كأَنْ ليس مِن هذا العالم، أَودعَهَ الأَخوان رحباني أَنقى صلوات الرجاء الذي لا ينكسر فحمَل رجاءَنا إِلى كلِّ الدنيا.
وما أَخلَدَهُ وطنًا يُمَجِّد خلودَه صوتُ فيروز.
هنري زغيب

زر الذهاب إلى الأعلى