بأقلامنا

ولِمَ لا يكون “يوم عالميٌّ للنثر”؟ بقلم الشاعر هنري زغيب

ولِمَ لا يكون
“يوم عالميٌّ للنثر”؟
“أَزرار” الحلقة 1265
“النهار” السبت
25 آذار 2023

نبيلةً كانت بادرةُ اليونسكو في جمعيَّتها العمومية الثلاثين )باريس 1999) بجعْل الحادي والعشرين من آذار “اليوم العالمي للشعر”، إِجلالًا هذا العالَـمَ الرائع الذي هو الشعر.
بعيدًا عن المدائح الكرنفالية التي تُكال للشعر في “يومه العالمي”، أَتساءَل: “لِـمَ اعتبارُ الشعر أَهمَّ من النثر حتى لا يكون للنثر هو الآخَر “يوم عالمي”؟
أَكتُب هذا وأَنا ابنُ الشعر، والمفروضُ أَن أَنحاز إِليه.. لكنَّ ما يُرتكَب بِاسْمه – وهو دون الشعر قيمةً ولا يستحقُّ أَن يكون حتى من النثر الساقط- يَجعلُني أَنحاز إِلى النثر تمامًا كما إِلى الشعر، لاعتباري إِياهُما مرتبةً واحدةً من الإِبداع حين يتولَّاهما متمرِّسٌ مبدعٌ يكون شاعرًا في نثره بقدْرِما هو مُبدع في شعره.
كثيرون يعمَدون إِلى تسميات “الشعر المنثور” و”قصيدة النثر” و”النثر الشعري” كما لــ”يَرفعوا” الكتابة النثرية إِلى مستوى الشعر، وفي ظنّهم أَنَّ الشعر “أَرفعُ” مستوًى من النثر.. وهذا خَطَل، بل هذه إِهانةُ النثر بـ”ارتكاب” كتابة سهلةٍ رخوة “تدَّعي” الشعر كي تُنَصِّع نصًّا يُقْنع المتلقِّين إِذا ما نسبوه إِلى إِقليم الشعر دون النثر، كأَنَّ النثرَ دَرجةٌ أَدنى والشعرَ دَرجة أَعلى.
هذه الموجة من دُرْجَة الشعر “الحديث” بدأَتْ منذ أَخذ شعراء يَخرجون عن عمود الشعر (صدرًا وعَجُزًا وقافية ورويًّا) ويَبْنون قصيدتهم مدوَّرَة على وحدة التفعيلة، وأَتوا فعلًا بروائعَ إِبداعية، مقابلَ غَثٍّ كثير من أَنماط “شعر حر” و”شعر منثور” و”قصيدة نثر” سقَطت في سرد نثري مُسَطَّح تَواصَلَ انفلاتًا من إِيقاع كلِّ قاعدة عروضية، تَحَجُّجًا بـ”الإِيقاع الداخلي” وهو وهْمٌ ترفضُه سيَّداتُ الإِيقاع: السمفونياتُ الخالدة التي “تفرض” ميلودياها ولا تنتظر “البحث” عنها “داخليًّا” بين النوطات.
تلك التسمياتُ الدخيلة على الشعر إِهانةٌ قيمةَ النثر الذي هو فنٌّ عظيمٌ في ذاته لا يجوز نقْلُ إِقليمه إِلى فن الشعر وربْطُه به لإِعلاء قيمته.. فرُبَّ ناثر متمكِّن مُبدع في نثره، إِذا “ارتكَب” الشعر جاء شعرُه نظْمًا، ورُبَّ شاعر متمكِّن مبدع إِذا كتَب النثر جاء نثرُهُ مسطَّحًا عاديًا دون شعره.. من هنا أَنَّ النثر فضيحةُ الشاعر، كما الشعرُ فضيحةُ نظَّامين غيرِ شعراء “يَتلطَّون” خلْف تقطيع الوزن وتلميع القوافي وتطريب الإِلقاء، فيما أَبياتُهم مرصوفةُ التراكُم عموديًّا وليس فيها بيتُ شعرٍ واحدٌ ذو إِبداع.
في السائد أَن الشعر “معنى ومبنى ووزن”.. لا.. أَبَدًا.. المعنى موجود أَنَّى كان، والمبنى متوافر لأَيٍّ كان، والوزن مطروحٌ في كل زمان.. الأَصل ليس “ماذا نكتب” بل “كيف نكتب ماذا”.. وهذا ما يميِّز قصيدةً رخاميةً باردة عن أُخرى إِبداعية نابضة.
ما المعيار؟ تركيب القصيدة.. الأَهمُّ أَن يكون في كل بيت لَـمعةُ تركيبٍ شعريةٌ.. وهذا نادر لأَن معظم الشعراء يُراكمُون أَبياتهم متتاليةً حتى يبلغوا “بيت القصيد” فيما الشاعرُ المتمكِّن هو من يَجهد إِلى جعل كلِّ بيتٍ في قصيدته “بيت القصيد”.
وما أَعنيه بـ”النحت” الجمالي الصعب في فنّ الشعر، أَعني مَثِيله تمامًا في الفن الصعبِ الآخر الذي هو النثر. مقطوعةُ الأَوَّل هي “القصيدة”، ومقطوعة الأَخير هي “النَثيرة”. وإِذا الشعرُ هو الكلامُ المغايرُ (تركيبًا) عن الكلام العادي (رصفًا سرديًّا)، فالنثرُ كذلك، تمامًا وتوازيًا وتساويًا، هو الآخَر نَسْجُ الكلام صقلًا وتنصيعًا بما لا يقلّ “نحتًا” عن نسْج الشعر.
هكذا يتعادل الإِبداع بين “القصيدة” و”النَثيرة”.
وهذا يستحقُّ من منظمة اليونسكو أَن تخصِّص سنويًّا كذلك “اليوم العالَمي للنثر”.
هـنـري زغـيـب

زر الذهاب إلى الأعلى