بأقلامنا

“ترنيمة الوداع… حين تودّع الأم ابنها” بقلم د ميساء عبد سرحان

 

اليوم… لم تكن فيروز هي فيروز التي غنّت لنا العمر كلّه.
اليوم… كانت كلّ الأمهات، وكانت أمًّا واحدة.
أمٌّ واقفة على حافة الغياب،
تشيّع ابنها، صمتها أثقل من الرثاء، ونظرها أبعد من الدموع.

اليوم، رأينا “الأم الحزينة” حقًا.
لا تغنّي، لا تتكلم،
فقط تنظر…
كأنّها تسلّم زياد بيديها إلى الله،
ثم تطوي الوجع على صدرها، وتجلس وحدها في حضرة الغياب.

لا يوجد وجع يشبه هذا الوجع.
أن تشهد على لحظة دفن نبضك،
أن تقف فوق تراب هو ابنك، حبيبك، ظلك، وجعك، شريانك الذي كان يتنفس من صدرك.
أي أمّ يمكن أن تحتمل ذلك؟
أي عمرٍ يمكنه أن يجهزك لمشهد كهذا؟

أنا أيضًا، مثلها…
أمّ فقدت ابنها.
أعرف جيدًا كيف يموت شيء فيكِ لا يُبعث،
وأنتِ رغم كل ذلك تواصلين الحياة،
تصبّحين على الناس،
وتخبئين الصراخ في فنجان قهوة،
وتُحضّرين الحنين على مهل، كأنك تجهّزين له فراشًا في صدرك.

اليوم…
فيروز لا تمثلنا فقط.
هي نحن جميعًا، نحن “المريميات”،
نحمل صليب الغياب فوق أكتافنا،
ونتبع فلذات أرواحنا حتى المثوى الأخير،
نرتل الحزن، لا بالدموع، بل بالرقيّ، بالصمت، بالدهشة النبيلة التي ترافق من خلقناهم ثم غادرونا.

نحن الأمهات اللواتي لم يمت صوتهن، بل غرق في الداخل،
نحن من نُحبّ دون شرط،
ونخسر دون احتجاج،
ونكمل الطريق بقدمٍ واحدة، وروح مشطورة إلى نصفين.

ما أقسى أن يمشي الابن في جنازته…
وما أوجع أن تمشي الأم خلفه.

لا كلمات اليوم تواسي،
ولا عزاء يملأ الفراغ ،
ولا لغة تشرح مشهدًا تقف فيه أمّ على حافة القبر،
تُلقي نظرة أخيرة،
وتهمس في سرّها:
“يا ابني… أنا بعدك ما بقى أنا.”

اليوم، فيروز غنّت لنا أغنيتها الأبدية…
لكنها لم تكن لحنًا، كانت نظرة.
كانت تنهيدة خرجت من زمن الحرب، والحب، والخسارة…
خرجت من صمت الأمهات، حين لا يجدن ما يقلن.

هذا النص…
ليس عن فيروز وحدها،
بل عن كل أمّ حملت ابنها إلى مثواه الأخير،
عن كل يد ارتجفت وهي تلمس الجبين البارد،
عن كل قلب لا يزال ينبض باسم لم يعد هنا.

نصٌّ لكل من ذاقت الوداع الأبدي،
لكل من انتظرَ عودة لا تأتي،
لكل من تُنادي في سرّها:
“قوم، رجعني، رجّعني متلك!”
لكن الصوت لا يردّ،
والباب لا يُفتح،
والأم تبقى هناك…
تنظر، ترتّل، وتصمت…..

زر الذهاب إلى الأعلى