صيغة جديدة لشطب الودائع: ودائع غير مؤهّلة” بقلم غسان عياش

رحيل المفكّر والوزير السابق جورج قرم يعيد إلى الأذهان فشل أوّل تجربة للإصلاح المالي في لبنان قبل ربع قرن من الزمن.
الكاتب عقل العويط أعطى جورج قرم حقّه في عنوان مقاله أمس في “النهار”، حيث وصف الراحل بأنه ” المفكّر الحضاريّ الاقتصاديّ السياسيّ اللبنانيّ العروبيّ الإنسانيّ الأريستوقراطيّ العلمانيّ التنويريّ الرؤيويّ الاستشرافي”. لكن ما يفيدنا أكثر أمام الانهيار الكامل للدولة اللبنانية ليس تذكّر جورج قرم المفكّر والمؤرّخ والباحث الأنثروبولوجي، بل استذكار تجربته في وزارة المالية التي تزامنت مع الفشل الذريع لأول تجربة لإصلاح المالية العامّة بعد الحرب الأهلية.
رغم إنجازات الشهيد رفيق الحريري على صعيد إعادة الإعمار، تعثّرت تجربته بعد خمس سنوات من توليه السلطة رئيسا لحكومة لبنان، لأن حكوماته لم تستطع الحدّ من عجز الموازنة ووقف ارتفاع جبل الدين العام. السبب هو تزايد احتياجات الدولة بعد الحرب واضطراره إلى استرضاء السياسيين على حساب خزينة الدولة، وأهمّ من ذلك كله رفع معدّل الفائدة على الليرة اللبنانية للحفاظ على استقرارها ومنع سقوطها في سوق القطع، وهو الهدف السامي في مرحلة رفيق الحريري.
في هذه المرحلة قرّر النظام الأمني السوري اللبناني شنّ هجوم مضاد على رفيق الحريري وسياساته الاقتصادية والمالية، مستغلّا استمرار تردّي المالية العامّة رغم انتهاء الحرب، فدفع إلى السلطة في بداية عهد العماد إميل لحّود بالرئيس سليم الحصّ على رأس حكومة ضمّت جورج قرم المعروف بمعارضته الشرسة لسياسات الحريري.
دخل قرم الوزارة مسلّحا ببرنامج للإصلاح المالي كان قد وضعه مع شربل نحّاس ومكرم صادر. ولو قيّض لهذا البرنامج أن ينفّذ في ذلك الوقت، بإدارة سلطة نزيهة ونظيفة، لوضع حدّا لانهيار المالية العامّة وأوقف تراكم عجوزات الموازنة، وتلافى سقوط الدولة كلها بعد عشرين سنة تحت وطأة هذه المشكلة وتفرّعاتها. إلا أن مشروع القرم الإصلاحي فشل ولم يبصر النور بما تضمّنه من إصلاحات مهمّة خصوصا على صعيد النظام الضريبي.
بشهادة مكرم صادر التي كرّرها في لقاءات خاصّة، فإن شربل نحّاس كان له الدور الأكبر في صياغة هذا البرنامج المميّز.
رحم الله جورج قرم، ففي تصريحات تكرّرت لاحقا ردّ سبب فشل “خطة الإصلاح المالي” إلى عودة رفيق الحريري إلى الحكم بعد انتصاراته المدوّية في الانتخابات. لكن جورج قرم كان بذلك يقول كلاما سياسيا يجافي الواقع والحقيقة، فبرنامجه للإصلاح المالي سقط في حكومة الحصّ نفسها قبل الانتخابات التي أعادت الحريري إلى رئاسة مجلس الوزراء. فقد تشكّلت في الحكومة لجنة اقتصادية ضمّت أثرياء بارزين في البلد، نجيب ميقاتي وأنور الخليل ومحمد يوسف بيضون، فانقضّت اللجنة على مشروع الإصلاح ومنعت تنفيذه. ولم يكن جورج قرم يملك القوّة الكافية لمواجهة الهجوم المضاد، فقبل الخسارة وتراجع وانكفأ.
استمرّت أزمة المالية العامّة في ربع القرن الذي تلى فشل المشروع الإصلاحي، وتزامنت مع تطوّرات اقتصادية غير ملائمة واتجاهات تدميرية للسياسة النقدية وسياسة سعر الصرف، حتى وصلنا إلى الانهيار الكبير والمذبحة غير المسبوقة ضد المودعين.
هذه المذبحة هي عملية مستمرّة تتوالى فصولها ويتغير، من وقت إلى وقت، “الأبطال” المتورّطون فيها. بعد الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء لم تعد الدولة قادرة على غسل يديها من الاعتداء على حقوق المودعين، أصبحت الحكومة شريكا رسميا في سرقة أموالهم. بعد سنوات الانتظار والوعود الموثّقة اجتمع مجلس الوزراء لكي يبحث في تحديد أسعار الصرف لمساعدة وزارة المالية على إعداد موازنة 2025. وبهذه المناسبة كرّس مجلس الوزراء دون حقّ أو مسوّغ قانوني أو دستوري ما يسمّى الدولار المصرفي بمبلغ 15 ألف ليرة لبنانية.
تتذرّع الحكومة بأن هذا التدبير الظالم مؤقّت بانتظار إنجاز مشروع لإعادة هيكلة المصارف يعمل فريق من المستشارين على إعداده. وهنا يأتي الفصل الجديد من المذبحة، لأن المشروع الموعود يعمد إلى غشّ أصحاب الحقوق، فهو يتلافى اعتماد شطب الودائع بسبب الرفض الشامل له لكنه يستعيض عن الشطب بتوسيع دائرة الودائع “غير المؤهّلة” التي ستشمل أغلب الودائع. وهكذا يطبّق الشطب بصورة تعسّفية بيافطة جديدة ومسمّى جديد.
في أروقة السراي الكبير يجري التداول بمشروع خطير وظالم لأصحاب الحقوق. هذا إخبار للرأي العام.
كتبها غسان عياش في النهار اليوم الأربعاء
في ٢١ آب ٢٠٢٤