بأقلامنا

فصول من أَنطوان مَسَرَّة بقلم الشاعر هنري زغيب

فصول من أَنطوان مَسَرَّة
“أَزرار” رقم 1275
“النهار” 24 حزيران 2023

من المفكِّرين مَن نَنتظر نَصَّهم كي نقتبِلَه، ومنهم مَن يكفي اسمهم كي نقبله لأَنهم ثِقَات.
أَنطوان مسرة من هؤُلاء الثِقات.. لا يَصدُر له نصٌّ (بالعربية في “النهار” أَو بالفرنسية في “لوريان لوجور”) حتى يندلع صداه في عدد واسع من المواقع الاجتماعية، ويُدعى إِلى لقاءات منبرية أَو إِعلامية.. ذلك أَنَّ له الكلمة/الفصل طالعةً من ينبوع العلْم الأَكاديمي والحقوقي والدستوري.. بذلك يَجدُر القول إِنه مرجع في الحق، ويا طوبى مَن يَبلُغ هذه الرُتبة.
في بحثه الدؤُوب الدائم عن دولة لبنان الحقيقية، مقالاتٍ ومحاضراتٍ وندوات، يقاربُها من الوجهة السياسو-سوسيولوجية، فيَخرج بمطابقاتٍ ساطعة تجعل من دولتنا سيِّدة المدينة الفاضلة والدولة الفاضلة والوطن الفاضل.
هل هو طوباويّ؟ أَبدًا. بل واقعيٌّ من قلب العلْم.. ولا يوتوبيا في كلامه إِلَّا بمقدار ما اليوتوبيا في الحلْم طريقٌ إِلى الفجر.
أَمامي كتابُه الجديد “الدولة والعيش معًا في لبنان: ثقافة وذاكرة وتربية” (في مجلد واحد: بالعربية 160 صفحة وبالفرنسية 224 صفحة) عن منشورات “كرسي اليونسكو لدراسة الأَديان المقارَنة والوساطة والحوار” في جامعة القديس يوسف وجمعية “تَصالُح”، وبدعم “مؤَسسة غزال للتربية والبحث العلْمي والسلْم في لبنان”.
أَفرَحَني أَنه لم يذكر “العيش المشترك” (هذه الأُكذوبة التافهة التي تُصوِّرنا قبائل تتعايش) بل أَكَّد على “العيش معًا”، وهو العيش الواحد في وطن واحد على أَرض واحدة موحَّدة. كما أَسعدني ما كتبَه صاحب المقدمة الأَب سليم دكاش رئيس جامعة القديس يوسف عن هذا الكتاب “أَنه في سبيل الدولة واقعًا، ودليلٌ ذو خطط وبرامج. وهو يملأُ ثغرة في معضلة دولةٍ يشتاق إِليها اللبنانيون ويفتقرون إِلى مثاقفتها في المدارس والتربية المدنية”.. صحيح: إِنها المثاقفة التي نريدها تبني لبنان الجديد بأَيدي جميع أَبنائه، حين أَيديهم لم تتلطَّخ بمصافحة دينوصورات السياسة في لبنان، المغروزين في أَرضنا وشعبنا ورَمًا سرطانيًّا لا شفاءَ منه إِلَّا باستئْصاله من أَعمق دمامله الأَخطبوطية. وهذا ما أَشار إِليه في المقدمة الثانية الدكتور عباس الحلبي: “لا توجد أَوطانٌ متخلِّفة بل أَوطانٌ فشِلْنا في حبِّها. من هنا يتمظْهُر غياب ثقافة الدولة في الخطاب اللبناني”.. ولعل الدكتور الحلبي، بكونه حاليًّا في الحكْم، يعرف من الداخل كم أَن ثقافة الدولة بمعناها الجوهري غائبةٌ عن معظم أَهل الحكْم، حين الخطابُ تلاطُمٌ لا تفاهُم، ومناكَفَة لا مصافَحَة.
لذلك ركز أَنطوان مسرة على الوحدة والتعدُّدية في مقاربة الحوكمة الرشيدة في لبنان (هل يعرفها أَهل الحكْم الإِقطاعيون عندنا؟)، وعلى ما يسميه “السيكولوجيا التاريخية اللبنانية” بما تفتحه من آفاق لاستبصار الآتي الــمُشرق، وعلى التربية التي لا ينفكُّ الـمَسَرَّة يتحدَّث عنها في جميع كتاباته وكتُبه ومحاضراته وندواته، سعيًا إِلى “مثاقفة الدولة لبنانيًّا”، عبر “تأْريخ علْمي واقعي”، بإِحياء مفهوم سلطةٍ ناظمةِ المعايير في محاور التنشئة بدءًا من العائلة فالمدرسة، حتى ينشأَ عندنا جيلٌ جديدٌ يعي جوهر مثاقفة الدولة فتضْمَن عندها عقدًا اجتماعيًّا مُـحْكَمًا ذا جناحين: مواطنية الدولة ودَوْلَنَة المواطنية. عندئذٍ تصبح سليمةً علاقةُ المواطن بالجغرافيا، والعلاقة بين المواطن والجغرافيا، وعلاقة الدولة الناظمة الجامعةِ الكُل بين الجغرافيا والمواطن.
ويصيب مَسَرَّة في اتخاذه المهاجرين اللبنانيين نموذجَ مواطنين يحملون معهم إِلى الْهناك ثقافةً وتراثًا وتربيةً من لبنان، فينجحون حيثما تتوافر لهم الحركة في دولةٍ ناظمةٍ يتوقون إِلى رؤْيتها في لبنان.
أَنطوان مَسَرَّة يشخّص المرض علْميًّا ويصفُ العلاج.. يبقى أَن يعرف شعبُنا كيف يتنبَّه إِلى المرض ويتجنَّبَ الـمُسكِّنات، لأَن في الدولة اللبنانية أَمراضًا لا ينفع فيها سوى علاج واحد وحيد: استئْصال مسبِّبيها.
هـنـري زغـيـب

زر الذهاب إلى الأعلى