بأقلامنا

بل أَن تحبُّوه كثيرَا بقلم الشاعر الكبير هنري زغيب

“نقطة على الحرف”
الحلقة 1756
“صوت كلّ لبنان”
الأَحد 28 كانون الأَول 2025

بين عشيَّة الميلاد الخميس الماضي، وعشيَّة السنة الجديدة الخميس المقبل، تَنهالُ آلافُ الأُمنيات والأَدعية للأَفراد بالفرح والسعادة، ويمرُّ بينها لبنان رجاءً بميلادِ السلام وسنةٍ جديدةٍ واعدةٍ بالسلامة.
وإِذا الأَدعيةُ الشخصيةُ صادقةٌ عمومًا وقد تتمدَّد، فالدعاءُ حيال لبنان غالبًا ما يكون لفْظيًّا فقط، لا يتمدَّد أَبعدَ من يوم العيد، ليعودَ بعده النَقُّ والغضبُ واليأْس والتشكِّي حيال لبنان، لِما يجري فيه من مصائبَ ومشاكلَ وأَحداث. وكلُّ هذا منطقيٌّ ومشروعٌ ومفهوم، لِما يُسبِّبُه أَهلُ السُلطة من عجز وتقصير وهفوات وتصرُّفات وتجاوزات تبلغ أَحيانًا سُوء احترام الدستور.
غير أَنَّ كلَّ هذا لا علاقة له بالوطن. كلُّ ما يحدُث هو سُلُوكُ السُلطة، وهو راهنٌ مُوَقَّتٌ ولو تأَخَّر، عابرٌ مهما طال، زائلٌ بما يكون أَتْلَف، ولن يدوم. ويبقى الدائمُ الوطنَ الخالد: يدوم بديمومة التاريخ والحضارة. أَفهمُ أَنَّ منطق التاريخ والحضارة لا يُطْعمُ الشعبَ خبزًا، ولا يُعيدُ له ودائعه المسروقة، ولا يسترجع 220 أَلف لبناني هاجروا فقط هذه السنة، ولن يعودوا. لكنَّ الهوية لا تَنهدم بأَخطاء أَهْل الحكْم، ولا بتجاوزات أَهل السُلطة، ولا بفسَاد ساسة الدولة.
السُلطةُ عاملةٌ جاء بها الشعب كي تَخدُم الدولة. ومن هذه السُلطة الخادمة، تشكَّلَت الدولة لتكون خادمةً لدى السيِّد الوطن. وما ذنْبُ السيِّد إِذا أَذْنبَتْ خادمتُه؟ المشكلة إِذًا هي في سُوءِ خدمةِ الخادمةِ سيِّدَها. وما الحل؟ لا حلَّ إِلَّا واحدًا: أَن يَطرُدَ السيِّدُ خادمتَه (السُلطة) ويستبدلَها بخادمةٍ أُخرى. هذا على المستوى الفردي. على المستوى الجَماعي، الحلُّ أَن يستبدلَ الشعبُ عاملَتَه بعاملةٍ أُخرى، أَي أَن يَطردَ الوطن خادمتَه ويستبدلَها بخادمةٍ أُخرى لا تؤْذي سمعتَه، ولا تُشوِّه صورتَه في العالم. إِذًا: لا أَسفَ على أَهل السُلطة إِن أَسْقَطَها الشعبُ وغيَّرهُم، حتى تَنقَى الدولةُ من الفاسدين، فتخدُمَ سيِّدَها الوطن ليبقى ناصعًا في وجدان أَبنائه وفي ضمير العالم.
وما الوطن؟ هو الكيان. هو الهُوية. هو الحماية. هو الملاذ. هو الأَمان. هو الفضاء الذي يُظلِّلُنا. هو الأَرض التي تحضُنُنا. هو الانتماءُ إِلى تاريخ وحضارة وطبيعة وآثار ومعالم وواحات ومدن ونجاح وسطوع وأَعلامٍ يُشرِّفون الوطن هنا وفي مَهَاجر العالَم. هذا هو الوطن الذي إِذا خسرناهُ جَلَسْنا على أَرصفة الدُوَل نَستجدي وطنًا يحمينا فلا يَستقبلُنا وطن، ونبقى فيه أَغرابًا ولو حملْنا جنسيَّته بطاقةً وجوازَ سفَر.
أَهلُ السُلطة اليوم، بين متصالحين ومتخاصمين، مُوَقَّتون في مواقفهم. المتصالحون اليوم متخاصمون غدًا. والعكس أَيضًا سيكون. والدولةُ المترهِّلة اليوم تَصلُح وتَتعافى إِذا تولَّى سُلطتَها من هُم أَهلٌ لإِنقاذها. أَمَّا الوطن فلا يترهَّل ولا يَسْقط ليُنْقَذ، لأَنه ثابت في مسيرته الحضارية أَمسِ واليومَ وغدًا وكلَّ غدٍ، سائرٌ في الزمان بكل أُبَّهةٍ واعتزاز: الأُبَّهة بما تَنَصَّع فيه عبْر السنوات والعقود والقرون، والاعتزازُ بأَبنائه المبدعين الذين نصَّعوا اسمه على أَرضه وفي محيطه والعالم. لا نُحِبَّنَّ أَهلَ السُلطة طالَما خدْمَتُهم فاشلة، فلْنُغيِّرْها بخُدَّام آخرين. ولا نُحِبَّنَّ الدولةَ طالَما يُخدُمُها أَهلُ سُلْطةٍ فاسدون. أَمَّا الوطن، سيِّدُ هُويتِنا وانتمائِنا وحمايتِنا وفضائِنا وأَرضِنا، فَلْنُحبَّهُ من دون سؤَال لأَن فيه جميعَ الأَجوبة.
هذا هو الوطنُ الذي نحبُّه ونعملُ له. فَلْنَغْمُرْهُ بجميع قوانا، ولْنحافظْ عليه بجَمْع وجداننا. ولْنعرفْ عظَمتَه بين الأَوطان. ولْنُبَشِّر به دومًا وطنًا غيرَ عاديٍّ في التاريخ والحضارة. الدولةُ محصورةٌ بحدودها الأَرضية فقط، والسُلْطة محصورةٌ بأَعداد حكَّامها خلال ولايتهم فقط. أَمَّا الوطن فلا حدودَ له، ولا وقتَ محدَّدًا، لأَن شمسَه غيرَ المحدودة تَسطَع على كلِّ الدنيا، وَأَهلَه ساطعون في جميع بلدان العالم. هنا الفَرق بين الدولة المحدودة والسُلْطة المحدَّدة، حيالَ لبنانَ الوطن اللامحدود جغرافيًّا وتاريخيًّا وحضاريًّا، واللامتناهي في كل زمان ومكان.
هذا هو الوطنُ الْعَلَيْنا أَن نُحبَّهُ ونُحافظَ عليه. وإِذا ضيفْنا الوفيُّ نزار قباني قال لأَهلنا يومًا: “كلُّ ما يَطلُبُه لبنانُ منكم أَن تُحِبُّوهُ قليلَا”، فنحن نَقول لأَهلنا بِــإِيمانٍ أَرْزِيّ: “بعضُ ما يَطلُبُهُ لبنانُ منكم، أَن تُحِبُّوهُ… تُحِبُّوهُ كثيرَا”.
هـنـري زغـيـب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى