بأقلامنا

في حتمية طغيان الإقليمي والدولي بقلم الباحث د. حسين صفي الدين

عند كل أزمة سياسية في لبنان، بيرز حجم التأثير الإقليمي والدولي. وهذا التأثير يكاد يكون حاسماً دون مبالغة في القرارات الكبرى الاقتصادية والمالية والسياسية الوطنية. والغريب هو خطاب القوى السياسية الحاكمة التي تتبادل الاتهامات معتبرة دائماً أن الآخر وتبعيته لهذا الخارج هو السبب في معاناة البلاد على كل المستويات، وبخاصة إذا كان هذا الأمر متعلّقاً بمسألة مواجهة السيطرة الأميركية الغربية ومسألة مواجهة الاحتلال الصهيوني ومقاومته ومعضلة الأراضي اللبنانية المحتلة وتحريرها.

يجري الاستخدام المتبادل للارتباط بالخارج في المعارك السياسية حيث تتم عملية تبرير وجوده عبر الاستعانة بكل ما يتوافر لدى هذه القوى من إيديولوجيا واستخدام لـ«التاريخ» و«الثقافة» واللغة، وكذلك الشعارات وصياغة أولويات مصالح وهمية خارج المصالح المباشرة والحقيقية للشعب اللبناني؛ فيما شعار «السيادة» يبدو فارغاً من كل مضامين.
كل هذا يحصل دون الانتباه إلى أن الخارج كان حاضراً دائماً منذ ما قبل تأسيس الكيان. فهو كان حاضراً بقوة في تأسيس نظام القائمقاميتين 1843-1861 ونظام المتصرفية 1861-1918 حيث أعلنت وصاية الدول الاستعمارية الغربية والعثمانية موزعة بين الطوائف اللبنانية فكان لكل طائفة راعيها الاستعماري.

هذه الصيغ كانت تدريباً مهّد للسيطرة المباشرة للقوى الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الدولة العثمانية.
هذا الخارج نفسه كان حاضراً بقوة أكبر وبشكل مباشر كاحتلال أُعطي «صيغة الانتداب» فكان عاملاً حاسماً في تلك العملية وكذلك في تشكيل السلطة السياسية التي حكمته، وتشكيل مؤسساته، وفي صياغة دستوره واختيار زعمائه وصناعة «أبطاله» المفترضين «أبطال الاستقلال»، وحجب هذا «الشرف» عن آخرين فقط لأنهم في المقلب الدولي الآخر. وغدا الخارج الغربي الاستعماري هو الضامن لسيادة البلاد. أمّا المحيط العربي، فاعتبروه المهدّد لهذه السيادة.

إنّ قرار الرئيس شمعون الدخول في «حلف بغداد» وإدخال لبنان كجزء من الصراع الاستعماري في المنطقة ومع العدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الصهيوني 1956، أثار الشارع العروبي في لبنان وسائر الدول العربية، كما أثار حفيظة الأميركيين والفرنسيين؛ فثورة العراق في تموز عام 1958 أسقطت حلف بغداد وأعطت الاتجاه العروبي المعادي للاستعمار دفعاً كبيراً فكان سقوط الحلف ونجاح الشعوب العربية في حركتها المعادية للاستعمار عاملاً جعل الأميركيين يسارعون إلى التدخّل العسكري لوقف هذا المدّ عبر إنزال بحري للأسطول السادس الأميركي على شواطئ بيروت واحتلال المطار.

وكل هذا لم يعتبر تدخلاً خارجياً بالنسبة إلى السلطة الحاكمة في لبنان والقوى المؤيدة لها، إنما اجتماع «الخيمة» على الحدود اللبنانية السورية التي كانت إشارة إيجابية لاعتراف الجمهورية العربية المتحدة بحدود لبنان حيث كان اللقاء بين الرئيس جمال عبد الناصر مع الرئيس شهاب تكريساً لهذا الواقع. وهي نفسها التي حاولت مباشرة بعد هزيمة 1967 الانقلاب على هذا الاتفاق وعلى الشهابية في الوقت نفسه.

هذه السقطة لا شك كانت، وعبر الحلف الثلاثي، مقدّمة لإدخال لبنان من جديد في الصراعات الدولية والإقليمية، فكانت الحرب بوهم ميزان القوى اللبنانية الجديد في المنطقة لإسقاط الشهابية بمؤسساتها وعلاقتها بالمحيط العربي.
إذا كان هذا واقع السلطة فماذا عن واقع الأحزاب والقوى السياسية: هل بقيت بمنأى عن هذا الخارج الإقيليمي والدولي؟ وهل كانت في إيديولوجيتها ومبادئها السياسية وأفكارها قد أعطتها المناعة ضد هذا الخارج أم عكس ذلك.

نستطيع تصنيف الأحزاب اللبنانية إلى فئات ثلاث: الأحزاب الأممية العالمية، الأحزاب القومية، والأحزاب الكيانية التي بغالبيتها طائفية مع أن بعضها يحاول حجب طائفيته ببعض الشعارات «المدنية» والوطنية. فالأحزاب الأممية في بنيتها الإيديولوجية والفكرية وبطبيعة فكرها المُتبنّى (اليونيفرسالي) ومبادئها القيمية الأممية والعالمية، لديها أولوية لمركز هذه القيم الذي تراوح بين موسكو وبكين أحياناً. والدينية انقسمت بين مركز القيم الأزهر في مصر أو السعودية وكذلك النجف وطهران وباريس وروما، فإذا كانت الأولوية للمركز القيمي يصبح لبنان ساحة في خدمة أهداف المركز القيمي ذاته.

وهذا الواقع الأيديولوجي صبغ القوى القومية أيضاً، ففي واقع الأمور الأحزاب القومية كان الخارج الإقليمي حاضراً في بنيتها العقيدية الفكرية من خلال شعار الوحدة العربية. كان انحيازها لعواصم مختلفة حيث اعتبرت ذلك مركز القيم لديها؛ فالقوميون العرب والناصريون توجهوا إلى مصر الناصرية، أمّا حزب «البعث» الذي كان في قيادة دولتين عربيتين (سوريا والعراق)، فقد انقسم ولم تنجز الوحدة بين «القطرين». هذا الانقسام انتشر في كل البلاد العربية، والصراع بين الفرعين كان الأقسى وأخذ الأولوية على باقي الصراعات وشعار الوحدة أصبح فارغاً من مضمونه وغرِقت هذه الأحزاب في الكيانية.

إنّ حتمية طغيان الإقليمي والدولي على الداخل في لبنان أتت من واقع فرضته القوى الاستعمارية في مرحلة منافساتها للسيطرة أو في مرحلة تناقضها

عند القوميين مراكز القيم كانت القاهرة أو دمشق أو بغداد، وبالتالي لبنان بقي بالنسبة إليهم ساحة لخدمة المشروع العروبي الوحدوي ولكن كل شعارات إسقاط سايكس بيكو والوحدة العربية ألغيت من البرنامج العملي لهذه القوى، وأصبحت مواجهات السلطات القومية في بعض البلدان العربية لها الأولوية. وحيث تمكّنت السلطات، تحوّلت إلى سلطة أفراد/زعماء حلّوا مكان السلطة الملكية. وهذه القوى ذاتها التي أعلنت بناء جمهوريات ارتدّت عبر عقود إلى جمهوريات يحكمها «أفراد ملوك» والتوريث أصبح واقعاً مرسخاً كتقليد، والشعب عاد ليكون في مستوى رعايا الممالك، والديموقراطية المفترضة أضحت سلطات استبدادية بمعزل عن إرادة الشعوب.

أمّا الأحزاب التي نشأت ضمن مفهوم الكيان اللبناني وطبيعة بنيته الطائفية «المحدّدة»، فحاولت أن تعزز موقعها ضمن التوازن الداخلي عبر التحالف مع الخارج أيضاً بمعادلة عكسية، وهي استحضار الخارج لتوطينه في محاولة لتعديل ميزان القوى في الداخل بمواجهة قوى طائفية أخرى. وهذه القوى ذاتها، وعبر رهانات مثالية، وضمن خلل كبير في ميزان القوى للعامل الخارجي في حركتها النهائية وفي انكسار مجرى أهدافها في موقع نصرها أو هزيمتها.

إنّ الصراعات الإقليمية الدولية حول منطقتنا أخذت طابعاً مهيمناً في واقع لبنان والمنطقة العربية ومحورها القضية الفلسطينية. ووجود الكيان الصهيوني كتهديد دائم لشعوب المنطقة يشكّل قاعدة متقدّمة للسيطرة الاستعمارية، وفي ظل التحالفات التي حصلت، تكوّنت أوهام حول ميزان القوى الجديد وخضعت لهذا المستجد الذي تبدّى لها حقيقياً، أو صوّر على أنه حقيقي، فصار التعاطي مع الوضع الداخلي ليس بمعطياته الواقعية الموضوعية، وإنما بواقع ميزان قوى خارجي متوهم غير حقيقي. حيث تم ربط التغيير الداخلي بواقع ميزان القوى المستجد، فكان هذا الرهان مدخلاً رديفاً أسهم في أن تصبح معركة التغيير، المغلّف بشعار الدفاع عن المقاومة الفلسطينية، مدخلاً يلاقي قوى السلطة لتكتمل شروط الحرب الأهلية.

إنّ هذا المنطق لم يقتصر على الموقف السياسي وإنما تسلّل إلى بنية الأحزاب الفكرية والسياسية وسكن البرامج السياسية لهذه الأحزاب التي تميّزت بأكثريتها بتحليلات وقراءات للواقع اللبناني والعربي والدولي، لكنها كانت محكومة بموقف أيديولوجي يضبط سياق هذه التحليلات، والقراءات إمّا محكومة باستنتاجاتها بالتبرير للموقف السياسي المسبق، أو للواقع السياسي الذي يسود المرحلة، أو بالتأسيس لمرحلة قادمة أهدافها مقرة ومحددة سلفاً. فكانت هذه الأحزاب، بتحليلاتها وقراءاتها، أسيرة الانتقائية، والإرادوية في تطويع وتعديل الوقائع، بعيداً من الرؤية النقدية للواقع المعيش. هذا ما أبعدها عن تلمّس الرؤية المستقبلية، وجعل أفكارها حقائق مطلقة، وقدّمت العصبية أو العصبوية إطاراً يحمي هذه الحقائق بالنسبة إليها.

إنّ هذا المسار أوقع كل الأحزاب اللبنانية، وإن كان بنسب متفاوتة، في غربةٍ عن واقعها، فلم تعد الأفكار والمبادئ «السامية» هي الطريق إلى العدل في واقع الناس، بل أضحت الإيديولوجيات هي الطريق لتعويضهم عن هذا الواقع الشقي البائس المؤلم الذي يعيشون من خلال تصورات مثالية متخَيلة لمجتمع بديل قادم. وهكذا أبعدت هذه الأحزاب، أو أبعدت نفسها، عن ملامسة المفاصل الأساسية لنضالها بما يتناسب مع مصالح الشعب، ما أوقعها في دائرة الأخطاء السياسية القاتلة في مراحل مهمة من تاريخ المواجهة السياسية في لبنان، ودفعها لأن تكون مربكة في طرح الأولويات وفي الدفاع عن مواقف عامة، قومية كانت أم أممية أم كيانية، وصلت حدّ التصادم مع المصالح الوطنية، فعطّل أدوارها الفاعلة، والمؤثرة، وأفقدها المبادرة وجعلها أسيرة هذه التعقيدات ذاتها وأسيرة تلك المصالح التي نشأت بعلاقة عضوية مع الخارج.

ولغياب أصالة الفكر الذي اعتنقته هذه الأحزاب، قومياً كان أم كيانياً أم أممياً ماركسياً، فإن هذا النشاط الفكري لم يتخطَّ «البعد» الفكري الذي اعتمد المراوحة في دائرة الجمود العقائدي حيث غاب الإبداع، حتى أنه وعند سقوط مراكز القيم خاصتها وجدت نفسها كالغزال بمواجهة الضوء في عتمة الليل ولا طريق. في الوقت الذي تعيش فيه أزمتها السياسية على الصعيد الوطني.

وبعد انتهاء الحرب، استمرت في واقع أزمتها الداخلية وظهرت كقوى عاجزة تبحث عن راعٍ جديد. ومنذ التحاق مجموع الأحزاب الوطنية والتقدمية بسلطة الطائف، خادمة لمشروعها الاقتصادي السياسي، حيث لزّمتها لتقوم بإنجاز المهمات القذرة في ضرب الحركة العمالية، والحركة النقابية بعامة، ووقفت بلا حراك تتأمّل تدمير الطبقة الوسطى التي ارتكزت عليها في «نضالها» عبر ثلاثة عقود.

أمّا الحزب الشيوعي، الذي قبل الانخراط ولكن كان الرفض من رعاة الطائف الداخليين والإقيليميين، ورغم هذا الرفض، فقد تحوّل نشاط قيادة الحزب السياسية إلى المطالبة بضرورة المشاركة في السلطة كونه شارك في الحرب، وعليه يجب أن يكون ممثلاً في السلطة وقت السلم على حساب الفرصة التاريخية في تأسيس وقيادة تيار لبناني معارض غير طائفي، للدفاع عن مصالح الطبقات المهمشة في المجتمع اللبناني بمواجهة تحالف الطغمة المالية وميليشيات الحرب.

وهكذا أصبحت هذه الأحزاب، في السلطة وخارجها، عاجزة عن قيادة أي عملية تغييرية في المجتمع اللبناني، وكذلك شكّلت في واقعها الراهن عائقاً لعملية التغيير ذاتها، وهذا ما كشفته انتفاضة تشرين بمواجهة كل ممارسات وفساد النظام السياسي الطائفي والسلطات الحاكمة، فلم يكن من مكان لما تبقى من هذه الأحزاب إلا بعض دور ثانوي على الهوامش، وتركت القيادة للقوى الطائفية وبعض مؤسسات المجتمع المدني الملحقة بشعارات الدول الغربية، حيث كانت نتائجها كارثية لصالح الطغمة المالية (المصارف) وزعماء الطوائف. وكالعادة، أضيفت الخسائر إلى رصيد الشعب اللبناني بعد أن حمّلوه أعباء الحرب ومصائبها وأهوالها.

إذاً، الإقليمي والدولي لم يكن يوماً إلّا جزءاً من البنية السياسية اللبنانية في ظل النظام الطائفي، سلطة وأحزاباً وكتلاً اجتماعية، تكمن في طبيعة البنية السياسية المؤسسية والدستورية للكيان. إنّ حتمية طغيان الإقليمي والدولي على الداخل في لبنان أتت من واقع فرضته القوى الاستعمارية في مرحلة منافساتها للسيطرة أو في مرحلة تناقضها. وجاءت مرحلة ما بعد الحربين العالميتين، التي انطلق فيها صراع جديد بين القوى الاستعمارية القديمة بريطانيا وفرنسا، من جهة، والنيوكولونيالية الأميركية من جهة ثانية.

وصراع إضافي مع منظومة عالمية جديدة، بقيادة الاتحاد السوفياتي كقوة في الصراع الدولي، ما أدّى إلى نشوء توازن قوى عالمي، وكان لهذه الكتلة الجديدة دور كبير في دعم حركات التحرّر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وجاء عام 1978 ليشهد تحرّر كل البلدان المستعمرة في العالم ولم يبقَ سوى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وما كان لحركة التحرّر هذه أن تنتصر إلا بدعم خارج ما متضامن إيديولوجياً مع حق الشعوب في التحرر.

عند الانهيار الكبير للمنظومة الاشتراكية اختلّ التوازن العالمي لتعود الهيمنة المطلقة للمعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبدأت مع التحوّل الكبير الارتداد على كل ما تحقّق في مرحلة ما بعد الحرب على مستوى القوى الشعبية في المجتمعات الغربية أو على مستوى الهامش المتاح للبلدان النامية واستعادة كل إنجازات الطبقات الشعبية في البلدان الصناعية من تقديمات اجتماعية، واقتصادية، وشروط العمل، والضمان الصحي، والتقاعد.

وكذلك إعادة إطلاق قوتها الغاشمة لتكريس الأحادية القطبية والسيطرة المباشرة على كل ثروات البلدان الأخرى عبر التهديد، والحروب الإقليمية هنا وهناك، والعقوبات بأسلوب الغطرسة واللؤم الاستعماريين. وهذا ما زاد من حصار قوى التحرّر التي لم تجد إلا بعض الدعم من قوى إقليمية أو دولية صاعدة بفاعلية محدودة وبعض الهوامش الديبلوماسية، منتظرة ثبات ما ستؤول إليه وقائع الصراع الدولي الحاصل.

سيبقى مفهوم السيادة والتحرر الكامل ملتبساً يُستخدم كشعار في خدمة المشاريع السياسية للسلطات الحاكمة للتغطية عن عدم بناء مؤسسات الدولة المستقلة وتبرير تبعيتها لهذا الخارج.
* باحث

المصدر : جريدة الاخبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى