تحقيقات

100 سنة على ولادة السوريالية (1 من 3) بقلم الشاعر هنري زغيب

المصدر: بيروت- النهار العربي

نادرًا ما عرف تاريخ الفنون تيارًا عَبَرَ فوق الأَعوام والعقود حتى بلغ 100 سنة.. السوريالية بلَغَتْها، وكسرَت طوق التقاليد الاتِّباعية التقليدية، وفعلَت فعْلَها العميق، وما زالت ذاتَ أَثر كبير على طريقة التفكير والكتابة والرسم، وتأْثير بّيِّن على نهج لا يزال اليوم ذا أَبجدية معاصرة في قاموس الشعر والرسم.

 

إِنها المئوية

هذه السنة (2024) تحتفل السوريالية بمئويتها الأُولى (1924) انطلاقًا من بيانَين صدَرَا بفارق أُسبوعَيْن: الأَول مانيسفت أَصدَره في الأَول من تشرين الأَول/أُكتوبر الشاعر الفرنسي من أَصل أَلماني إِيفان غُلّ Goll (1891-1950) وكان على ارتباط وثيق بتيار التعبيريين الأَلمان، والآخَر (وهو الأَشهَر تاريخيًّا) أَصدَره في 15 تشرين الأَول/أُكتوبر كتبَهُ الشاعر والناقد الفرنسي أَندريه بروتون (1896-1966) وكان من قوة الشخصية والحجَّة والإِقناع أَنْ كان زعيمَ هذا التيار الانقلابي الثوري الجديد.

في إِحدى الجلسات الأُولى (1924): أَندريه بروتون (الثالث من اليسار) وإِلى يساره سلفادور دالي

أَصل الكلمة

اللافت أَنَّ غُل وبروتون لم يلْحظا الرسم في بيانَيهما ولا استعملا فيهما لفظة “السُوريالية”.. الشاعر الفرنسي غِيُّوم أَبولينير (1889-1918) هو الذي كان استعملها سنة 1917 في رسالةٍ منه إِلى الشاعر والناقد البلجيكي بول ديرميه (1886-1951) واصفًا بــ”نوع من السوريالية” (ويقصد “فوق” أَو “أَبعد من” الواقعية) في المقدمة التي وضعَها لكُتَيِّب باليه “الاستعراض” (Parade) وكان فترتئذٍ عملًا مسرحيًّا اختباريًّا جديدًا من نوعه حتى الغرابة (1917)، صمَّم رقصاتِه الكوريغرافيةَ الفنان الروسيّ ليونيد ماسّين (1896-1979)، على موسيقى من المؤَلِّف الموسيقي الفرنسي إريك سْتَاتي (1866-1925) وسيناريو من الشاعر الفرنسي جان كوكتو (1889-1963) وديكور وأَزياء من بابلو بيكاسو (1881-1973).

من هنا وردت في مانيفست أَندريه بروتُون عبارة “السوريالية” وحدَّدَها بأَنها “تحلُّ ما كان سابقًا من جدَل متناقض حول أَحوال الحلم والواقع، وتأْتي بالحل في ما هو واقع آخَر، أَو “فوق الواقع” أَو “ما بعد الواقع” أَو “أَبعد من الواقع”.”. وذكَر ذلك مفصَّلًا في منشوره “السوريالية والرسم” (1928)، بعدما كان انضمَّ إِلى فكرته الطليعية تلك: سَلفادرو دالي، ماكس إِرنست، بول كْلي، رينه ماغريت، خوان ميرو، ورسامون آخرون.

جلسة بعد نقاش سوريالي. الصف الخلفي من اليسار: مان راي، جان آرب، تانغي، أَندريه بروتون. الصف الأَمامي من اليسار: تريستان تْزارا، سلفادور دالي، بول إيلوار، ماكس إرنست، رنيه كريفيل

التَحرُّر من القيود التقليدية

بعد الخروج من أَهوال الحرب العالمية الأُولى (1914-1918)، رأَى بروتون أَنَّ في السوريالية “جوابًا ذاتيًّا وشخصيًّا متفردًا للتعبير عن وظيفة التفكير”، عكسَ ما كان سائدًا من فوضى في التعبير التقليديّ أَو التفكير الاتّباعيّ. وربما لذلك استرعى الأَمر فترتئذٍ انتباه رسامين كانوا أَسرى المعايير المتَّبعة في عصرهم، فأَطلقهم بروتون فحرَّرهم منها وأَطلقهم أَحرارًا في التعبير المطْلَق كيفما يُحسُّون، من دون ضوابط ونُظُم ومقاييس وقواعد وأَشكال وأَنماط كلاسيكية معلَّبة سلَفًا. وكان سلفادور دالي، بين أُولئك الرسامين، هو الأَسرع بانفراده وانطلاقه إِلى الرحابة في التفكير والتعبير، ومنذ بدأَت تَظهر أَعماله سنة 1929 وسَّع بها مفهوم السوريالية بأَشكال متجدِّدة متعدِّدة.

 

رينه ماغريت وقبّعته الشهيرة

ما بَعد الدادائية

وُلِدَ ظهر التيار السوريالي أَولًا من إِرادةٍ واعيةٍ لكسْر طوقٍ كان سائدًا مع الدادائية، فكان بدايةً جناحًا منها، أَو فصيلًا خارجًا على نمطها، وخصوصًا بعد الجدل القاسي بين أَندريه بروتون ورائد الدادائية تريستان تْزارا (1896-1963).

كانت الدادائية نشأَتْ مع شُلَّةِ كُتَّاب وشعراء (في طليعتهم: تزارا، إيمي هينينغز، هوغو بال، مرسيل جانكو) اجتمعوا في زوريخ إِبان شتاء 1915، في نادٍ محلي يدعي “حانة فولتير”، وراحوا يقرأُون نصوصًا مرتجَلة ويقدِّمون مشاهد سفسطائية، معتبرين أَنَّ العبثية هي ردةُ الفعل الطبيعيةُ على ما كان يسود في أُوروبا من جنونٍ وهذيانٍ بعد الحرب العالمية الأُولى. ومن زوريخ توسعَت حركة الدادائية إِلى مدُن أُخرى بينها برلين وكولونيا ونيويورك، وتلاقوا منها مع تيار أَندريه بروتون السوريالي.

تريستانا تْزارا رائد الدادائية

وصلَ تْزارا رائدُ الدادائية إِلى باريس سنة 1919 وشاركَ في تحرير مجلة “أَدب” التي كان يصدرها أَندريه بروتون، وراح الجدل يتنامى على صفحاتها، خصوصًا في محورٍ أساسيّ: هل من جدوى للفن والثقافة بعد كوارث الحرب؟ اتخذ تْزارا موقفًا انهزاميًّا عدَميًّا، فأَثار أَخصامًا له رفضوه إِذ كانوا بعدُ مؤمنين بالجماليات في الأَدب والفن. هكذا ناقض بروتون عدَمية تْزارا وأَعلن أَن تيارًا جديدًا هو السوريالية يمكنه أَن يعيد بناء مجتمعٍ مزَّقتْه الحرب. وسنة 1921 حصل جدال آخر بين موريس بارِّس وتْزارا، انتهى إِلى القضاء النهائي على التيار الدادائيّ.

من هم أَبرزُ أَعلام السوريالية في الرسم؟

هذا ما أُفصِّله في الجزء الثاني من هذه الثلاثية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى