اصدارات

انتفاضة غير مسبوقة في السرديّة التاريخية لنشأة فكرة زرع الكيان الصهيوني في فلسطين،

انتفاضة غير مسبوقة في السرديّة التاريخية لنشأة فكرة زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، ولجذور هذه الفكرة وما تلاها لتأكيد هامشيّة دور هيرتزل في تأسيس المنظمة الصهيونيّة العالمية ودور القس البروتستانتي وليام هشلر، الصديق الشخصي لهيرتزل، في تأسيسها، وكذلك في تأسيس الصهيونية المسيحية.
هذه الانتفاضة تولّاها الباحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الدكتور محمد نعمة فقيه في بحثه الجديد: “الكيان الصهيوني وموقعه في منظومة النّهب الدولي” الذي صدر حديثاً في 300 صفحة عن دار الفقيه للنشر في بيروت، حيث عالج موضوعه من خلال طرحه لعددٍ من الإشكاليات ليصل إلى استنتاجات مدعّمة بالأسانيد والمراجع والمصادر من بطون الكتب والوثائق العربية والأجنبيّة لاسيّما منها وثائق تُستخدم للمرة الأولى في هذا الإطار كتقارير مراسلي وكالة روترز البريطانية للأنباء من بطرسبورغ في روسيا القيصريّة عام 1882 والبيان الذي أصدره نابليون بونابرت من العريش في مصر حين انطلق في حملته لاحتلال سورية عام 1799 وطلب فيه من اليهود الانضواء تحت راية فرنسا لإعادة بناء مملكة أورشليم القديمة. إضافة لعدد كبير من المصادر اليهوديّة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومن تلك الإشكالات التي عالجها الدكتور فقيه في كتابه ما يرتبط بماهيّة المشروع التوسعي للكيان الصهيوني وحدود وطبيعة هذا التوسُّع: هل يذهب باتجاه بناء “إسرائيل الكبرى”؟ أو باتجاه “إسرائيل العظمى”؟ مركّزاً على أن هذا الكيان بوصفه كياناً وظيفيّاً تتحدّد وظيفته تبعاً لمتطلّبات مصالح الجهة التي توظّفه وتوجهه، وأنّ أي تغيير في طبيعة هذا الكيان ووظيفته ودوره منوطٌ بالسياسات الاستعماريّة العامة، أي بالسياسات التي تضعها منظومة النّهب الدّولي.
وأشار الباحث إلى ما يجري من خلط ما بين عدّة عناوين: عنوان “الكيان الصهيوني” كإشارة إلى الكيان السياسي الذي أنشأته السلطة الاستعمارية على أرض فلسطين بعد طرد الشعب الفلسطيني من أرضه وتوطين جماعات يهوديّة فيه. والعنوان الثاني “الصهيونية العالمية” بما هي تيار سياسي – اقتصادي يتجاوز الجغرافيا السياسية الدّوليّة، كما أنّه يتجاوز الجماعات اليهوديّة لتنخرط فيه قوى غير يهوديّة بشكلٍ فاعلٍ وموجّه للسياسات الصهيونية، وبشكل خاص تنظيمات ومؤسسات الصهيونية المسيحية. والعنوان الثالث يشمل تلك القوى، أو الدول، التي تأتمر، لسببٍ أو آخر، بأوامر مؤسسات الصهيونية العالميّة ونجد سياساتها متماهية مع سياسات تلك المؤسسات بدرجات عالية. وينضوي تحت هذا العنوان دولٌ “عُظمى” وأخرى “صغرى”. ونكتشف في سياق البحث صعوبة في التمييز ما بين “الصهيونية العالمية” و”منظومة النّهب الدّولي”.
بيد أن اختلاف تلك العناوين، كما سيتبيّن لنا من خلال هذا البحث، لا يعني أنّها تعمل بشكل مستقل بعضها عن بعض، بل هي متكاملة تعمل بشكل متعاضد ومتآلف ضمن سياقات منسّقة، وإن اختلفت ميادين عمل كلٍّ منها، ولتشكّل جميعها جزءاً لا يتجزّأ من أدوات السيطرة والإخضاع التي تقودها منظومة النّهب الدّولي حول العالم.
وحتى لا يكون الكلام عن طبيعة الكيان الصهيوني ككيانٍ وظيفي في خدمة السياسات الاستعماريّة مجرّد توصيف سياسي، أمعن الباحث في نشأة فكرة إقامة هذا الكيان، ومدى علاقة هذه الفكرة بالمصالح الاستعماريّة، وفي أي دوائر نشأت، وكيف تمّ الترويج لها وتحويلها إلى حالة سياسيّة. وذلك ابتداءً من بيان نابليون بونابرت في العريش عام 1799 وصولاً إلى تأسيس المنظمة الصهيونية في بازل عام 1897، مروراً بكثير من المحطات التي كان منها مباحثات موسى مونتفيوري مع محمد علي باشا والي مصر عام 1840 والجهود التي بذلها القس البروتستانتي البريطاني ويليام هشلر كممثل للحكومة البريطانية عام 1882 مع السلطنة العثمانية، ثم دوره في توجيه ثيودور هيرتزل لتبنّي فكرة “الدولة اليهوديّة” وتنظيم المؤتمر الصهيوني الأول، وملازمته له حتى وفاة هيرتزل عام 1904.
ضمن هذا السياق، انطلق البحث في القسم الأول منه لدحض مقولة وجود “الحلم” و”الشعب” قبل قيام الحركة الصهيونية، ولدحض مقولة أن المؤتمر الصهيوني الأول وتأسيس المنظمة الصهيونية كان يهدف لحل “المسألة اليهودية”. وللتأكيد على أن الحركة الصهيونية منذ بداياتها في أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر، لم تكن سوى صدى للمصالح الاستثماريّة للبيوتات المالية اليهوديّة، وهي البيوتات التي كانت بدورها تقبض على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي في دول المركز الاستعماري. أي أنّ الدعوة الصهيونية لم تكن سوى صدى لتلك المصالح.
وفي القسم الثاني من البحث، تمّ التركيز على موقع الكيان الصهيوني في العلاقات الدولية، فأكد على وظيفيّة هذا الكيان، مع شرح دلالة مفهوم الكيان الوظيفي. كما قام الباحث في هذا القسم بمعالجة مسألة الصراع ما بين الدولتين الاستعماريتين الأكثر اهتماماً بالمنطقة، فرنسا وبريطانيا، للسيطرة على تركة “الرجل المريض” ومخططات كليهما لإقامة الكيانات الوظيفيّة في المشرق العربي. لينتقل إلى دراسة إشكالات الدّين والسياسة داخل الكيان بعد إعلانه، لاسيّما بعد حرب عام 1967 وبداية بروز تيار الصهاينة الدّينيين في الواجهة السياسة، وتالياً في موقع القوى السياسية المتصارعة داخل الكيان بمراكز القوى داخل منظومة النّهب الدّولي، والتي هي، دون غيرها، ما يحدّد وظيفة الكيان ودوره وشكل هذه الوظيفة.
أمّا في فصول القسم الثالث فقد عالج البحث الظروف السياسية الدوليّة والإقليمية التي طرأت مع بداية تسعينات القرن الماضي ودوافع الدخول العسكري الأميركي المباشر على المشرق العربي وارتدادات ذلك على الكيان الصهيوني وما أنتجه من تداعيات سلبية وإيجابية عليه واحتدام النقاش داخل الكيان على “أي دولة نريد؟” في ظل صراعٍ محتدم يدور في الولايات المتحدة ما بين مشروعين للكيان: “إسرائيل الكبرى” و”إسرائيل العظمى”. فكان لا بدّ من الإطلالة على ظروف نشأة هذين المشروعين، ودور الصهيونيّة المسيحية في دعم تيار الصهاينة الدّينيين. وقد توصّل البحث، وعلى ضوء اتفاقات ابراهام وحروب 2024، إلى إدراك طبيعة الوظيفة المحدّدة لهذا الكيان في منظومة النّهب الدّولي، أي هي نفسها وظيفته الأصلية كأداة من أدوات إخضاع المنطقة ونهبها وسحقها حضاريّاً، مع تطوير على هذه الوظيفة يتناول البُعد الاقتصادي. لتكون الوظيفة الراهنة للكيان الصهيوني في المنطقة تشتمل على خصائص متداخلة للدولة الكبرى التي عناها بنيامين نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس”، وللدولة العظمى التي عناها شمعون بيرز في كتابه “شرق أوسط جديد”.
كتابٌ جديرٌ بالقراءة والتمحيص، فهو كما جاء في عنوانه الفرعي: “قراءة مخالفة للشائع”.

زر الذهاب إلى الأعلى