شارك بمسابقة شهر رمضان المبارك للعام ــ 1445 هـ . ـــ 2024 م . وأربح جوائز مالية نقدية Info@halasour.com
بأقلامنا

الموسيقار والشاعر والفنان الياس الرحباني.. مملكة مستقلة تحتاج حياة أخرى بقلم // جهاد أيوب*

رحل المبتسم المتسامح رغم تعب الفن وغدره، والضاحك مع أنه أصيب بجحود الوطن بما حمل، والمستبشر بغدٍ أفضل، لكنه تركنا لزمن فيه مسؤولين نهشوا من لحم إبداعاته من دون رحمة.
رحل صاحب النكتة الحاضرة والتي يفرضها في كل الأماكن والمناسبات حتى لا يشعر جالسه بالملل!
رحل الموسيقار الفنان، والكاتب الباحث عن مساحة تفاؤل، وفيلسوف التسامح الياس الرحباني.
رحل آخر حبّة مبدعة في الموسيقى العربية، والأكثر غزارة في عطاء زرع فيه خصوصيّة مغايرة عن الأخوين رحباني وهو الشقيق الأصغر لهما!
الياس الرحباني أكثر مَن قام بغزوات على المهرجانات الموسيقية الغربية منافساً وحاصداً الجوائز والمراتب الأولى من دون أن تلتفت الدولة لغزواته، ومن دون أن تقول له شكراً مع أن كل أركانها في يوم رحيله أصدروا بيانات النعي، لكنه رحل منكسراً كما أخبرني قبل رحيله بسنتين، ولم يقرأ تلك البيانات المعزّية كرفع عتب!
عرفته منذ بداياتي مع البحث والمعرفة لأجده شامخاً، واضحاً، ضاحكاً متألماً، عميقاً وبسيطاً، يحب أسرته، ويعشق زوجته، ويفاخر بما قدّم، وموجوعاً دامعاً في غصة حضوره من كل العرب، ومن كل لبنان!
“يا صديقي مات عاصي ومنصور وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي قهراً… ولحق بهم وديع الصافي قهراً، ومن ثم ورغم فرحها الدائم رحلت صباح مقهورة، وأنا سأموت مقهوراً!
سجّل هذا الكلام، وانشره عني في ورقة نعوتي”…
بهذه العبارة ختم حديثه مع كاتب هذه السطور يوم تعزيته بالسيدة صباح، ونشرته آنذاك في جريدة “البناء”، حيث أضاف:
” العرب ولبنان لا يعترفون بقيمة الفنان، خصوصاً مَن يحصد الجوائز… أنا رفعت اسم لبنان والعرب عالياً، وحدثت الجوائز بوجه فرنسا وأميركا والمانيا واليونان والبرازيل، وأوروبا الشرقية، وأميركا الجنوبية في المسابقة الكبرى التي أخذت فيها المرتبة الأولى، وبدلاً من أن اتلقى التهنئة، اتصل بي سفير لبنان ليخبرني أن الدولة اللبنانية خصمت 50 % من راتبي الشهري في الإذاعة اللبنانية أي 400 ليرة خصم من أصل 800 ليرة بسبب مشاركتي في المهرجان وحصد الجائزة الأولى!
هكذا الدولة اللبنانية تُكرٍّم من ينجح في بلادنا، ومن ثم يقدمون لك التهاني بعد أن خطفوا تعبك وعمرك من دون أن يكترثوا لفعلتهم، ولفظاعة ما تصرفوا…”!!
الياس الرحباني ذاك النهر الهادر كان الطفل الدائم، يسارع بمصالحتك إذا وقع الخلاف، لا يحقد ويصرّ أن يزرع السلام، يمارس ذلك من دون تردّد، ويواجهك بهدوء إن وقعت في الخطأ معه، أو انتقدته، لا يخاف من الاتصال مباشرة ليشرح لك وجهة نظره، وإن لم تتفق معه يصرّ أن تبقى صديقه، أو يجلبك إلى صداقته خاتماً بعبارته الشهيرة “أنا مؤمن بالتسامح، وما في شي محرز غير المحبّة”.
ولد الياس عام 1938 في انطلياس ضمن أسرة فقيرة تسعى إلى الشمس، كان لدى والده مطعماً صغيراً في منطقة تراثيّة إزالته بلدية انطلياس إلى جانب ثمانية دكاكين مشابهة بتاريخها!
إبن أربع سنوات اكتشف وديع الصافي الذي يجلس إلى جانب عاصي ومنصور في غرفة صغيرة داخل المنزل، يتناقشون بالفن، والياس لم يفهم عليهم حتى شعر بالملل، أخذ يبحث عن لعبته كي يتسلّى، وفجأة وجد مجلة ممزقة على غلافها صورة امرأة جميلة شعر بشيء يشدّه إليها، فأخذها وضمّها وعمل على تلزيقها ومحتفظاً بها ليخبره عاصي بأنها للمطربة صباح، ومنذ ذلك الوقت بدأ يطرق نوافذ الفن بشغف وتطفّل وبحث في عمره!
تنبّه إليه عاصي ومنصور باكراً بعد أن علمته شقيقتُه سلوى العزف على البيانو، فجلبوا له استاذاً فرنسياً ليعلمه الموسيقى إضافة إلى أخذه معهما للنوادي في الزيتونة!
كان يعتبر زكي ناصيف وتوفيق الباشا من عائلته لكثرة وجودهما في منزل أهله، ومع أشقائه، وكان صديقاً لزياد مع ابن عاصي وفيروز منذ الصغر، وعاشا معاً 13 سنة كرفاق وحالة واحدة إلى أن حدثت الحرب وأوقعت الفراق!
ابن الخامسة مات والده فشعر بالحزن، وابن التسعة عشر وفي سنة 1938 وقع عقداً مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC لينفذ 40 أغنية واسكتشاً، وأول اسكتش له كان “صيّاد الحلوين”.
بعد عمر 21 توظّف في الإذاعة اللبنانية مسؤولاً عن الشق الغربيّ، وذات أمسية حضرت المطربة الكبيرة صباح لتحل ضيفة على برنامج “البث المباشر”، التقت به جالساً على آلة البيانو، رحّب بها وهي التي تعرفه جيداً من خلال صداقتها مع عاصي ومنصور.
كانت صباح حينما تصل إلى الإذاعة اللبنانيّة تشعل بركاناً من الاهتمام، وكل المسؤولين يستقبلونها بالترحاب الذهبيّ، ناهيك على الهدايا التي تتدفق من محبيها إلى الإذاعة، وكانت صباح لا تأخذ منها شيئاً، بل توزّعها على موظفي الإذاعة!
انتهت صباح من الحفاوة والحوار لتجد الياس في مكانه، انزعجت من تكرار المشهد، اقتربت من الياس وقالت له حرفياً: “أنت ابن الرحابنة ماذا تفعل هنا، أين فنك وأعمالك؟”، فردّ عليها: “ومَن سيغنّي لي؟”، فردّت فوراً، ودون تردّد: “أنا من سيغنّي لك”.
وكانت أغنية “عنّي يا منجيرة” أول أعماله، والمطربة صباح أول من غنّت له، ومن ثم الكبير وديع الصافي كأول تعاون من خلال أغنية “يا قمر الدار”… وكرّت سبّحة الإبداع عند الياس.
محمد عبد الوهاب كلما زار لبنان يسأل عن الياس، ويجتمع معه مطولاً طالباً منه أن يسمَعه كل جديد، وكان معجباً بأغنية “هاشلي بربارة” لصباح أيضاً، وفي كل مرة يقول له “إزاي عملت الكوبليه كدة يا مجنون”!
كانت الكبيرة فيروز بالنسبة إليه الخط الأحمر، يحترمها، ويقدّرها، ومعجب بصوتها، وأعطاها “حنا السكران، كان الزمان وكان، وكان عنا طاحون…”، وكان يرفض تقسيم الأخوين رحباني وفيروز!
قال لي في أكثر من مناسبة: ” فيروز رأس حربة موسيقى الأخوين رحباني، وعاصي ومنصور سر من الأسرار لن يشهد التاريخ مثلهما”!
الياس الرحباني الذي أبدع في الموسيقى التصويريّة في الأفلام والمسلسلات مثل “حبيبتي” و”دمي دموعي وابتسامتي”، و”أجمل أيام حياتي”، و”عازف الليل”، و”حول غرفتي”، و”ديالا” هو ذاته كاتب الشعر في ديوانه الوحيد “نافذة العمر” عام 1996، وأكثر من مرّة أخبرنا عن كتاب جديد فيه فلسفته في الحياة والدين، والأهم هو صاحب نظرية “الموسيقى لغة تفهمها كل شعوب العالم”!
موسيقي بامتياز، كاتب حر، فيلسوف الضحكة، عميق التجربة، وقائد أوركسترا الحياة بامتياز وكما يشتهي هو… هذا هو الياس الرحباني اللبناني العربي، تركنا في زحمة البحث عن الوطن تاركاً خلفه آلاف الأغاني، وآلاف الإعلانات التي تزعمها في الشرق، ولم يصل إليها غيره، والأهم ترك مئات الأعمال الموسيقيّة الجاهزة حيث تنتظر النور والمنتج كي تنفذ، بمعنى أن حياة الياس كانت قصيرة كي يحقق أحلامه وأعماله، الياس الرحباني يحتاج إلى حياة ثانية، فهذه الحياة التي عاشها بيننا لم تكفه!
عاش الدكتور الياس الرحباني، “دكتوراه فخرية من جامعة مارينغتون الأميركية في اسبانيا”، وهو من الجيل الثاني في مملكة الأخوين رحباني، ولكنه استقل عنهما بسرعة البرق ليصنع بصمته ومملكته.
عاش عاشقاً للبيانو منذ الصغر حتى العشق الأخير من عمره، وعاش في النغمة الموسيقية اللبنانية بامتياز، وزاوجها مع النغمة الغربية بشطارة العارف من دون أن ينقص من خصوصية الشرق.
عاش الياس كريماً ومعطاء، وغنى له كبار الصف الأول والمبتدئين من صباح وفيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين، وملحم بركات، وسامي كلارك، وجوزيف عازار، وجوزيف ناصيف، وجورجيت صايغ، وهدى حداد… وهيفا وهبي… كل هذه الكوكبة وغيرها غنّت له، ومع ذلك ظلم لبقائه في لبنان رغم العروض الكثيرة التي تلقاها من دول غربية، أحب الوطن، وأهل الوطن الغلابى قدّروه، ولكن زعامات الوطن اكتفت بنعيه عبر السوشال ميديا يوم مماته…!

زر الذهاب إلى الأعلى