بأقلامنا

ماذا تبقى من إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920؟ بقلم الدكتور حسن دياب

إن مشاريع تجزئة المنطقة العربية إلى دول عنصرية وطائفية ،أثناء الحرب العالمية الأولى، بدا واضحاً في إطار ما عُرف تاريخياً بإتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 ، ووعد بلفور عام 1917 الذي طالت نتائجه المنطقة العربية بأكملها، وتحديداً بلاد الشام دون سائر الولايات العربية التي كانت تابعة للدولة العثمانية قبل سقوطها.
ومنذ ان أصدر الجنرال غورو المفوض السامي الفرنسي على سوريا ولبنان في 31 آب 1920، مرسوماً بضم مناطق ( بيروت والبقاع ومدن طرابلس وصيدا وصور وملحقاتها) إلى متصرفية جبل لبنان، وجعلها جميعاً دولة واحدة هي دولة لبنان الكبير، كدولة مستقلة تحت الإنتداب الفرنسي، كان الصراع الطائفي السياسي الباعث على الإنقسام الوطني يطرح نفسه باشكال مختلفة، ولكن أهمها على الإطلاق هو ذلك الصراع الذي كان يتدرج من الصراع المنبثق عن تناقضات مجتمعية إلى الصراع حول مفهوم الكيان اللبناني الشامل .
وبتقسيم مناطق النفوذ الفرنسي إلى دويلات، أوجدت فرنسا كيان سياسي منفصل عن سوريا وذلك عندما أعلن غورو في الأول من أيلول 1920 ولادة دولة لبنان الكبير بحضور البطريرك الياس الحويك والمفتي الأكبر الشيخ مصطفى نجا وعدد من رجال الدين والسياسة، في احتفال مهيب جرى في قصر الصنوبر. وكان قبل ذلك قد أنهى غورو حكومة دمشق بزعامة الأمير فيصل إثر معركة ميسلون في 24 تموز 1920، حيث دخل دمشق ودفن نهائياً مشروع سوريا الكبرى والقومية العربية التي جسدها فيصل ، وصار بإمكان الجنرال الفرنسي الإستجابة لمطالب مسيحيي لبنان.
وبالرغم من فصل لبنان عن سوريا، غير أن اللبنانيين والسوريين الوحدويين استمروا في مطالبتهم في وحدة البلاد السورية، وراحت تقدم المذكرات والعرائض للمسؤولين الفرنسيين. وعُرفت الدولة الجديدة بإسم ” دولة لبنان الكبير” على أساس إضافة مدن الساحل والبقاع وطرابلس والجنوب وسهل عكار الى متصرفية جبل لبنان الي أنشأت عام 1864 برعاية الدول الكبرى وموافقة الدولة العثمانية.
وهكذا أقيمت دولة لبنان الكبير بتوازن إقليمي وسكاني وطائفي، فبعد أن كانت مساحة هذه المتصرفية 4500 كلم2، إرتفعت هذه المساحة الى 10452 كلم2 عام 1920 أي بنسبة 130%، وزاد سكان الدولة الجديدة من 259،60 نسمة في جبل لبنان إلى 579،778 نسمة في العام 1921. غير أن الأغلبية المطلقة للمسيحيين الموارنة في جبل لبنان قد تم تجاوزها ، فأضحى الموارنة أكثرية نسبية فقط ، ونشأت دولة قابلة للحياة، ذات توازن طائفي مقصود أقامها الفرنسيون وفق مخططاتهم في المنطقة بعكس نظام المتصرفية.
وفي عام 1920 انتقل عهد الطوائف اللبنانية الى مرحلة بناء النظام الطائفي اللبناني باسم لبنان الكبير على أسس عصرية حديثة. فحمل هذا النظام في تكوينه عوامل إنهياره . فدولة لبنان الكبير لم تكن طائفية فحسب، بل دولة لبنانية على أسس رأسمالية حديثة. دولة دمج الفرنسيون فيها جميع الطوائف بتوازن جديد وحدود جديدة. وبالرغم من الرفض المطلق للطوائف الإسلامية التي عبّرت فيه عن عدم اعترافها بهذه الدولة المعزولة عن العرب والمرتبطة بالغرب، فقد أدرك رأسماليو لبنان الكبير، مسيحيين ومسلمين، أن الفرنسيين لم يسعوا الى كيان مسيحي، بل إلى كيان لجميع الطوائف يصلح كمنطلق لرساميلهم نحو الداخل. بينما استمرت القوى الإسلامية والوحدوية بالتعبير عن رفضها الإعتراف بصيغة لبنان الكبير، وعقدت العديد من الإجتماعات والمؤتمرات فيما بينها عُرفت “بمؤتمرات الساحل”. ولما كانت سياسة الإنتداب تقوم على استخدام أسلوب العصا والجزرة، أو أسلوب الترغيب والترهيب، فإنها تمكنت من خلالها من استيعاب بعض الزعامات الإسلامية التي عملت على تسليمها وظائف هامة في الدولة عن طرق المجالس التمثيلية أو النيابية أو الوزارية أو في بعض مرافق الدولة. وبدأت التحولات السياسية لهذه القوى المعارضة تأخذ منحى مختلف مع مطالع ثلاثينيات القرن العشرين، تجلى بإنخراط بعض الزعامات الدينية والسياسية والإقطاعية الإسلامية في التركيبة الجديدة للكيان اللبناني وتحقيق مكاسب عديدة .
ظاهرة الشيخ محمد الجسر
وعندما بلغ الخلاف أشده بين الزعيمين المارونيين إميل إدة وبشارة الخوري عام 1932 ، إثر انتهاء الولاية الثانية لأول رئيس للجمهورية اللبنانية شارل دباس لخلافته في الرئاسة ، إرتأى رئيس مجلس النواب المسلم الشيخ محمد الجسر الترشح لهذا المنصب بدعم مباشر من إميل إدة الخصم العنيد لبشارة الخوري وبعض المسيحيين الآخرين وذلك تقديراً لموقف الشيخ الإيجابي من الكيان اللبناني المخالف لموقف العديد من زعماء ووجهاء مسلمين آخرين. غير أن سلطات الإنتداب عارضت هذا الترشيح لأن أوامر باريس واضحة بعدم السماح لوصول مسلم الى رئاسة الجمهورية. وعندما عجز المفوض السامي الفرنسي هنري بونسو عن اقناع الشيخ الجسر بسحب ترشيحه، وأيقن أن أكثرية النواب ستصوت له، أصدر في 9 أيار 1932 ، وبتحريض من البطريرك الماروني، قراراً بحل مجلس النواب، وقراراً آخر بتعليق العمل بالدستور، وجدد ولاية الرئيس شارل دباس . لقد كانت حجة المفوضية الفرنسية لتلك الإجراءات هي أنه” لما كان رئيس الجمهورية السورية مسلماً، فمن المنصف أن تكون الرئاسة في لبنان لمسيحي”.
أحدثت هذه التدابير استياء وانقساماً عاماً، فزادت على أثرها نقمة المسلمين على الوصاية الفرنسية، خاصة وأن دستور 1926 لم ينص على طائفية رئاسة الجمهورية، بينما سار المسيحيون ولا سيما الموارنة منهم في خطة رباعية الأهداف حصلت على تأييد سلطات الإنتداب الفرنسي ودعمها، فحواها:
1- الإبقاء على النظام الطائفي – السياسي في لبنان والدفاع عنه.
2- الإستحواذ على امتيازات تضمن لهم الإمساك بالبلاد والدفاع عن مصالحهم السيادية والإقتصادية بالإقناع حيناً وبالقوة أحياناً.
3- العمل على زيادة عددهم عن طريق تجنيس المسيحيين اللبنانيين المغتربين ، والمسيحيين العرب إضافة الى الأرمن.
4- إيجاد ” هوية لبنانية” تقوم على ميراث ثقافي وتاريخ خاص.
وذلك إنطلاقاً من إعتبار أن إنشاء لبنان المسيحي هو الذي يمكّن للمسيحيين توازناً استراتيجياً مع المحيط العربي – الإسلامي، وخصوصاً مع سوريا. وأدت هذه الأحداث السياسية إلى إدراك المسلمين أن سلطات الإنتداب وقوى مارونية دينية وسياسية ترفض وتخشى وصول مسلم الى منصب رئاسة الجمهورية. ولكن كان من أهم نتائجها مأسسة الطائفية السياسية عملياً في مناصب الدولة اللبنانية الحديثة.
تحولات سياسية في ذهنية الزعماء المسلمين
وكان لعقد المعاهدات التي جرت عام 1936 بين لبنان وفرنسا، وقبلها بين سوريا وفرنسا ، إنعكاسات هامة على الزعماء والوجهاء المسلمين، وبرز ذلك من خلال التحولات السياسية التي بدت واضحة في سلوكهم السياسي العام ، وباتوا متمسكين أكثر من اي وقت مضى في الكيان اللبناني، خاصة بعد أن تكرّس هذا الكيان لبنانياً وعربياً ودولياً ، مقابل تكريس الكيان السوري. وبدون أدنى شك فإن قبول القيادات الإسلامية في تولي مناصب رئيسية في الدولة كان من جملة العوامل الأساسية في إرساء دعائم الحكم والنظام اللبناني.
وفي 22 تشرين الثاني من عام 1943 تمكن لبنان من انتزاع استقلاله وتحرير الإرادة الوطنية من الإنتداب الفرنسي، بعد مخاض عسير، وذلك بعد تعاون جميع الأحزاب وزعماء الطوائف لإنجاز هذا الإستحقاق الوطني الجامع. غير أن سلطة الإستقلال سارت بقيادتها على نهج دولة الإنتداب في إعتماد الصيغة الطائفية لتوزيع المراكز الأساسية في الدولة على قاعدة ميثاق وطني غير مكتوب. كما تبنت صيغة العروبة النفعية أو عروبة المصلحة في التعاون مع الدول العربية، إلى أن اضطرت في دستور 1990 للإعتراف بعروبة الذات دون أن تتخلى عن عروبة المصلحة.
لقد تمّ توصيف الزعماء عمداً كممثلي طوائفهم وليس كقيادات سياسية كان لها دور أساسي في معركة الإستقلال والسيادة الوطنية. فتعزز دور الطائفية بدلاً من إلغائها كما تمنى الرئيس رياض الصلح.
اطلقت دولة الإستقلال العنان للفساد الإداري والمالي برعاية واضحة من أعلى مراكز السلطة السياسية ، وجرى تزوير الإرادة الشعبية في إنتخابات 25 أيار 1947، تمهيداً لبدعة التمديد التي أصبحت هدفاً لعدد من رؤساء الجمهورية اللبنانية. وتمكن تحالف الإقطاع السياسي مع بورجوازية الخدمات من إفشال جميع مشاريع الإصلاح السياسي والإداري والإقتصادي. وأجهض الإصلاحات الشهابية في ستينات القرن الماضي. وساهم بشكل جلي في التأسيس لنشوب حرب أهلية مدمرة عام 1975 التي استمرت لخمسة عشر عاماً ، طالت الإنسان والأرض والإقتصاد في لبنان، وتمخض عنها إتفاق الطائف ليوقف الحرب ، ويوزع المناصب العليا في الدولة على الطوائف الرئيسية. لقد كرّس الدستور الجديد نفسه صيغة طائفية شرسة شلّت ركائز الإدارة اللبنانية ومنعت كل اشكال الإصلاح السياسي والإداري. فتحولت الطائفية الى مذهبية، والوحدة الجغرافية الى مقاطعات طائفية تحكمها الدولة بالتراضي مع زعمائها المحليين. وبقيت التوصيات التنموية لإتفاق الطائف حبراً على ورق ومنها اللامركزية الإدارية، وإلغاء الطائفية السياسية، وبات كتاب التاريخ الموّحد حلماً بعيد المنال بعد أكثر من عشرين سنة على البدء بالتحضير له.
ختاماً، إن حماية دولة لبنان الكبير بعد مئة عام على مروره، تحتاج الى تعزيز الوحدة الوطنية على اسس وطنية لا طائفية، والتصدي بصلابة لكل أشكال الفتن الطائفية والمذهبية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من المشروع الصهيوني لبناء الشرق الأوسط الجديد. كما أن الإدارة اللبنانية التي بنيت على الفساد والإفساد تشكل الرديف الآخر للطائفية المعيقة لبناء الدولة العصرية التي تقوم على تشجيع القطاعات المنتجة في الزراعة والصناعة. وإذا كان لبنان بحاجة ملحة للقيام بإصلاحات ضرورية ملحة بناء للواقع المزري الذي يعيشه اللبنانيون، وبناء أيضاً لمطالب المجتمع الدولي الذي يلح على المسؤولين تنفيذ هذه الإصلاحات خدمة للمجتمع اللبناني الذي ينوء تحت ديون متراكمة ناهزت التسعين مليار دولار أميركي، وتحت أوضاع إقتصادية وإجتماعية ومالية باتت تشكل تهديداً مباشراُ لحياة المواطنين. فهذه الإصلاحات المطلوبة على كافة المستويات السياسية والإدارية والمالية والقضائية يمكن أن تشكل بارقة أمل، وفسحة ضوء، لقيام الدولة المدنية العادلة ، وذلك عن طريق إلغاء الطائفية السياسية، وإعتماد قانون إنتخابي عصري يحاكي تطلعات الشباب في دولة عصرية متحضرة ، تساعدهم على البقاء في وطنهم أعزاء محترمين ، بدل اللجوء الى الهجرة للبحث عن وطن بديل، بالإضافة الى العديد من الإصلاحات التي ترمي الى النهوض بالمجتمع اللبناني، وتعيد الثقة لأبنائه بوطنهم وبدولتهم الراعية لشؤون البلاد والعباد.
زر الذهاب إلى الأعلى