أخبار لبنان

لبنان يتذكر رشيد كرامي.

لبنان يتذكر رشيد كرامي.
وإذا تذكر لبنان رشيد كرامي فإنه يتذكر نفسه.
وذلك لأن الذين إغتالوا الرشيد أرادوا إغتيال لبنان.
وأرادوا إغتيال أية تسوية توافقية لأزمة لبنان يعمل لها الرشيد.
وأرادو إغتيال القيم الوطنية والقومية والإنسانية التي تمثلت في حياة الرشيد السياسية.
فأخطأ الاغتياليون كل أهدافهم.
فأصابوا جسد الرشيد، لكنهم لم يصيبوا روحه التي ستظل خالدة في نفوسنا.
وأسقطوا طائرته، لكنهم لم يوقفوا قطار الوفاق الوطني ، الذي لا يزال يتابع سيره، تاركاً وراءه الذين لا يتخذون لهم مقعداً فيه.
وغيبوا عنا اطلالته البهية، لكنهم لم يغيبوا قيمه الوطنية والقومية والإنسانية، التي تتوقف عليها صيرورة لبنان الديموقراطية.
وشهادة رشيد كرامي هي برهان ساطع على أن الاغتياليين فاشلون، وان زين لهم أنهم ناجحون !
وشهادة الرشيد هي تذكرة جديدة لنا بأن الإغتيال هو أداة ساقطة من أدوات التاريخ.
فقد اغتيل ثلاثة من خلفائنا الراشدين : عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب. لكن الذين اغتالوهم لم يستطيعوا أن يغتالواا رسالة الإسلام، لأن هذه الرسالة ما لبثت أن إمتدت خلال مئة عام من استشهادهم، من باب المحيط الأطلسي الى باب المحيط الهادىء!
ولم يستطع الاغتياليون ان يحولوا دون حمل الأمة العربية رسالة الإسلام العلوية، بكتاب عربي مبين، تنزيلاً من رب العالمين، وبعبقرية عربية باهرة، أدى تفاعلها الخلاق، مع شعوب دار الإسلام وأديانها وفلسفاتها وعلومها وأدابها، إلى إبداع حضارة من أروع ما عرف التاريخ.
فذهب الإغتياليون وسادت الرسالة.
وقضى الاغتياليون وإزدهرت الحضارة.
وخسىء الإغتياليون وإنتصرت أمة العرب الخالدة.
وهكذا خسىء مغتالو رشيد كرامي، وبقي لبنان، وظل يتذكر رسالته الوطنية القومية الإنسانية.
ولكن على اللبنانيين وعلى جميع العرب بل على جميع البشر، وهم يتذكرون قادتهم الذين ذهبوا ضحايا الإغتيال، أن يتذكروا مسؤوليتهم في إزالة أسباب الإغتيال وفي معالجة علله في السلوك السياسي.
ولبنان يعاني منذ عام 1975 جواً غابياً عنفياً يجعل الإغتيال، بأيد داخلية أو خارجية، عاقبة من عواقب معاناتنا المأسوية. ويجعل القاتل يقترف جريمته، وهو واثق من ان يد العدالة لن تطاوله بالجزاء الذي يستحق.
لكن الإغتيالات السياسية لم تبدأ عندنا وعند إخواننا العرب منذ عام 1975.
بل ان لها سجلاً حافلاً بالمكرمات، يمتد عندنا من بطل استقلالنا الاول رياض الصلح الى بطل إستقلالنا الثاني رينه معوض.
وسيظل هذا السجل مفتوحاً، ما دامت الحرب مستعرة في لبنان. فلا بد من وقف الحرب لاغلاق السجل !
لكن هذا السجل الأسود سيظل منفسحاً لبنانياً وعربياً ودولياً، ما لم نرتق إلى مسستوى التقدم السياسي الحضاري، الذي جعل الإغتيال السياسي استثناء في النظم المتطورة بدل أن يكون قاعدة، كما هي الحال في النظم المتخلفة.
والتطور السياسي الحضاري الذي يغلق سجل الإغتيال، أو يساعد على اغلاقه، هو تحقيق القدرة على التناوب الدستوري السلمي في الحكم، وبلوغ الأهلية لاستحداث تغييرات سياسية وإجتماعية وإقتصادية، بالعقل لا بالعنف، وبالإقناع لا بالإكراه، وبالطرق السدتورية لا بالطرق الإنقلابية.
وهذا إنجاز سبقت إليه الدول الانغلوسكسونية خاصة، والدول الديموقراطية الغربية عامة. ولا يعني هذا، أن هذه الدول تحررت من الاغتيال تحرراً تاماً. لأن رؤساءها وقادتها لا يزالون يتعرضون للإغتيال حتى الآن. لكن قاعدة سلوكها السياسي هي إحلال اوراق الاقتراع محل طلقات الرصاص في اختيار الحكام او في تناوبهم في السلطة.
ولا ضير علينا من إعتماد هذه القاعدة، ومن تعجيل تطورنا السياسي في هذا الإتجاه الحضاري الإنساني.
ويبدو لي أن زعماءنا السياسيين فوتوا علينا فرصتين تاريخيتين لتأصيل هذا القاعدة الحضارية في سلوكنا السياسي.
إنها من حيث المبدأ موجودة في نظامنا الديموقراطي، لكن النظام السياسي شيء والسلوك السياسي شيء آخر.
نظامنا السياسي مقتبس الشكل من الديموقراطيات الدستورية الغربية. لكن سلوكنا السياسي هو شبكة مهلهلة من تفاعل قيمنا السياسية التقليدية العائلية والقبلية والمذهبية والطائفية مع القيم العصرية. وكان على زعمائنا السياسيين أن يعيدوا وصل الشبكة وصلاً عصرياً صلباً وإبداعياً. ولا يكون ذلك إلا بتوفير القوام الحي للتنظيم السياسي الديموقراطي العصري.
وهذا القوام التواصلي هو التنظيم الحزبي الوطني. وحالت الفرصة التاريخية الأولى لقيام هذا التنظيم، بعد بلوغنا الإستقلال ، بفضل الميثاق الوطني عام 1943. فكان على الميثاقيين أن يؤلفوا حزب الميثاق الوطني، الذي توافرت له أكثرية حاكمة، وأن يتركوا لمعارضي الميثاق حرية تأليف حزب معارض. فتسود عندنا الثنائية الحزبية، التي تكفل التناوب الحر في الحكم بين الموالين والمعارضين.
لكن آباء الإستقلال فضلوا على التنظيم الحزبي الشعبي، التكتل الثنائي النيابي بين موالين ومعارضين، تتمحور موالاتهم ومعارضتهم حول شخصية رئيس الجمهورية، وحول التزامه إستقلال لبنان وعروبته. فأضعنا الفرصة الأولى.
وجاءت الفرصة الثانية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، الذي ساد فيه التكتل الثنائي داخل مجلس النواب بين أكثرية الشهابيين وأقلية المعارضين. وكان التمحور حول شخصية الرئيس وحول سياسته الإنمائية.
وكان لرشيد كرامي دوره الأول في الولاء لفؤاد شهاب، وفي التزام سياسته الإنمائية. لكن الشهابيين لم يستطيعوا ان يتجاوزوا التكتل النيابي الى التنظيم الحزبي الشعبي. فأهدرنا الفرصة الثانية.
وكنت أراجع الرئيسين شهاب وكرامي في الأمر. فيحمل الرئيس شهاب على السياسيين بأنهم “أكلة الجبنة”، فأنى له أن ينظمهم؟ وكان الرئيس كرامي يقول لي : “حبذا لو يجري مثل هذا التنظيم! ولكن … كيف يتسنى لنا صوغ المتنافسين على رئاسة الحكومة في حزب واحد ؟”.
ويعتقد المتشائمون السلبيون ان الفرصة التاريخية التي تهدر لا تعوض.
لكن هذا خطأ تاريخي ومنطقي.
فالحياة تجربة وخطأ.
وهي نضال الإعتبار بالخطأ لاستدراكه.
وإحياء ذكرى كبارنا هو توعية لنا بما أنجزوه لنمجده، وبما حالت ظروفهم دون إنجازه لنتابعه.
ولا أريد أن أبسط وضعنا الراهن تبسيطاً ساذجاً.
لكننا نحن الآن وفاقيون وانشقاقيون، كما كنا عام 1943 ميثاقيين وغير ميثاقيين، وكما كنا عام 1959 شهابيين وغير شهابيين.
وأكثريتنا الساحقة هي أكثرية وفاقية.
فلماذا لا ترص صفها في تنظيم وفاقي يحمل رسالة إنقاذ لبنان، التي عاش رشيد كرامي وإستشهد في سبيلها ؟
* كتب د. حسن صعب المقال بتاريخ
1990/6/1 ، وتوفى د.صعب بتاريخ 1990/7/25.
المصدر :  مؤسسة حسن صعب للدراسات والابحاث –

امانة السر : محمد ع.درويش.

 

زر الذهاب إلى الأعلى