أخبار صور و الجنوب

خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ علي ياسين العاملي

” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ”

شهر رمضان فرصة للإنسان لتقوية عزيمته، ومجاهدة نفسه، ليكون من المتّقين، فهو شهر الصبر على الطّاعة، والصبر عن المعصية، فالصّيام يُعين الإنسان على اكتساب ملكة الصبر، وفي شهر رمضان يستلهم الصائمون دروساً وعبر كثيرة، ليُربّي من خلالها نفسه فتلتزم الطاعة .
إنّ الصبر من أعظم الصفات ومكارم الأخلاق التي يتّصف بها المؤمنون، وحينما يصير الإنسان متّصفاً بالصبر تُفتح له أبواب السماء، قال تعالى ” إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ “، لأنّ كلّ طاعة من أجل أن تكون خالصة لوجهه نعالى لا بد من دعمها بالصبر، وقد ورد في الأخبار أنّ الصوم نصف الصبر، كما ورد عن رسول الله (ص) قوله: الصوم نصف الصبر . وما ذلك إلاّ لأنّ الصوم منقسم إلى صبرٍ عن المعصية وصبرٍ على الطاعة، وقد سمّاه رسول الله (ص) شهر الصبر – كما ورد في خطبته (ص) في آخر جمعة من شعبان، حيث قال (ص) فيها:ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة . وكذلك أمير المؤمنين (ع) سمّاهُ شهر الصبر في قوله:صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن بلابل الصدر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) .
إنّ الصّبر خُلُق الأنبياء (ع)؛ فقد صبروا على أذى قومهم واستمرّوا في دعوتهم إلى الله سبحانه، وأرشدوا قومهم إلى طريق الجنّة والخير والصّواب، قال تعالى ” وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ “، وقال سبحانه لمحمد (ص) ” فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ “، ونوح قضى ألفاً إلاّ خمسين عاماً يدعو إليه سبحانه، وإبراهيم (ع) صبر على نار النمرود حتى صارت برداً وسلاماً، وموسى (ع) صبر على أذى فرعون وكبريائه وجبروته وطغيانه، كذلك صبر نبي الله عيسى (ع) على تكذيب بني إسرائيل له، حتى تجرّؤوا على محاولة صلبه؛ لكنّه سبحانه نجّاه من كيدهم بأن شُبّه لهم، وخاتم الأنبياء رسول الله (ص) تحمّل أذى الكفّار حتى قال: ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت. فصبر (ص) على كلّ ذلك الأذى ليُبلّغ وينشر رسالة الله سبحانه للبشرية جمعاء .
وبما أنّ الباعث للصبر والهدف في آنٍ هو ابتغاء وجهه سبحانه؛ فقد كان لصبر الأنبياء والمعصومين ذلك الباعث القوي الذي لا يمكن لأي شيءٍ من أن يُثني هؤلاء المعصومين (ع)، قال تعالى ” وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ “، والصابر يُحبّه الله سبحانه ” وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ “، والصابر يعيش المعيّة من الله سبحانه ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ “، والصابرون هم أهل الصدق والتقوى ” وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ “، والصبر يُحقّقُ النصر ويأتي بالفرج ” بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ “، وبالصبر تنال المغفرة والأجر العظيم في الآخرة ” إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ” .
المؤمن ليس له إلاّ الصبر على مصائب الدنيا ومكارهها، فلا يضجر ولا يجزع، ولا يندفع وراء شهواته وأهوائه وغرائزه؛ بل يصبر ويثبت على إيمانه، لأنّه يعلم بأنّ الدنيا زائلة غير دائمة، لأنه على يقين بأنّ الله سبحانه هو خالقه وإليه المرجع والمصير، وعليه التأسّي بالأنبياء والأوصياء والصالحين، فيقينه في ازديادٍ بأنّ الله يجزي الصابرين من عباده بأفضل وأحسن الجزاء، فلا يفرح بما يحصل من حطام الدنيا، ولا يحزن على ما فاته من فتاتها، لأنّ ما يأتيه منها لا يدوم، وما يذهب عنه منها يعوّضه سبحانه بأفضل منه، فإن عافاه الله سبحانه شكر، وإن ابتلاه ومنعه صبر، ولله الحمد والثناء على كل حال .
وكثيرة هي الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة (ع) في تمجيد الصبر والصابرين؛ منها عن الإمام الصادق (ع) قال:الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان . وعن الإمام الباقر (ع) قال: الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار .
وأوضح مصاديق الصبر وأعظمها الصبر على المكاره والنوائب، إذ يبقى المؤمن ثابتاً أمامها ولا ينهار، بل يبقى رابط الجأش ماضي العزيمة، فبتعلّق بالصبر ويُعزّي نفسه ويُبلسم جرح قلبه، فلا يقع صريع الأحزان، بل يستبشر بوعد الله سبحانه بالأجر العظيم ” وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ”، ولإدراكه بأنّ الصبر فيه أجر وثواب، والجزع يورث الإثم والوزر، قال أمير المؤمنين (ع):إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور . وقال (ع) أيضاً:إن البلاء للظالم أدب، و للمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة . وقال (ع):الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنهم . وعن الإمام الصادق (ع): لن تكونوا مؤمنين حتى تعدّوا البلاء نعمة . وقال (ع):إنّ الله أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم وبالاً ، وابتلى قوماً بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة .
يعيشُ العالم حالة خوفٍ وهلع من جرثومة تكاد لا تُرى حتى بالمجهر، وقد تكون من صنع بني البشر، وقد تكون ربّانية لتأديب البشر الذين طغوا وظلموا، وفي نفس الوقت هو امتحان للمؤمنين لتمحيصهم وليجزيهم ربّهم أجر صبرهم .
وإلى الآن نرى البشريّة – رغم تقدّمها العلمي – عاجزة عن تأمين لقاح ضد هذه الجرثومة، فما علينا إلاّ بالصبر وأعانة بعضنا بعضاً ولو بقسطٍ من وجبتنا اليومية، لنعيش المواساة لبعضنا البعض إن لمنقدر على الإيثار، ليُعيننا الله سبحانه على تجاوز هذا البلاء وهذه المرحلة الخطرة على الناس، فنأمل أن تخرج البشرية من هذا البلاء والامتحان بصحوة وإيمان بالحكمة الإلهية، ليعودوا إلى رسالات السماء، وليعطف بعضهم على بعضٍ ونبذ الظلم والجور، ولا بدّ من الالتزام بما يصدر عن السلطات من توجيهات وتعاون بأقصى ما نستطيع .
إننا نرى أن معالجة الفساد تستوجب معالجة الأسباب لا النتائج، وعليه يجب اعتماد قانون انتخابي عادل على أساس لبنان دائرة واحدة،ونؤكد علىأن الحفاظ على لبنان وتنوعه لا يتعارض مع وضع كل شخص في مكانه.
إننا مع مراعاة مكونات لبنان في تعينات الفئة الأولى، ولكن علىأن يتم تعيين الأجدر في طائفته لا المحظوظين سياسياً، وفي باقي الوظائف يتم تعيين الأجدر بغض النظر عن طائفته وانتمائه السياسي، لأنه بذلك ينهض لبنان ويستمر ويتعافى من كورونا السياسيين الذين أوصلوا البلد الى مرحلة الانهيار وعتبة الإفلاس الاقتصادي.
إننا ندعو اللبنانيين إلى الالتفاف حول بعضهم البعض وتقاسم الرغيف حتى نخرج من هذه الازمة.
ونشيد بزيارة رئيس الحكومة للجنوب والتي جاءت في موعدها،ونؤكد على ضرورة التجديد للقوات الدولية دون أي تعديل في المهام مع التزام عناصرها بالقانون ومنع التجاوزات الصهيونية اليومية وعدم الاكتفاء بتسجيلها.
ونختم بالإشادة بالخطوة الإيرانية وكسرها الحصار حول فنزويلا في مواجهة الإرهاب والطغيان الأمريكي، مما يؤكد أن الجمهورية الإسلامية في إيران مع الأحرار والمستضعفين أينما كانوا بغض النظر عن الدين والعرق.

والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمدٍ وآله الطاهرين .

تصوير : محمد عامر درويش

 

زر الذهاب إلى الأعلى