ثقافة ومجتمع

الروائية التي أَحرقَتْ كُتُبَها واعتَكَفَتْ (1 من 2) بقلم الشاعر هنري زغيب

كان أَرثور رِمْبُو (1854-1891) شاعرَها المفضَّل، وكم أَثار فضولَها أَنه كتَبَ أَجمل شعره في مطلع شبابه، وفي الحادية والعشرين كسَرَ قلمه وهجَرَ الشعر والكتابة، وما زالت مجموعته الشعرية الوحيدة لؤُلؤةَ الشعر الفرنسي حتى اليوم.

يومها لم تحدُس أَنْ ستنتهي مثله حياتُها الأَدبية الناجحة والساطعة، فتكسر قلمها وتهجر الكتابة، وأَكثر: تُحرق مخطوطاتها وما استطاعت جمعه لدى المكتبات من كتُبها المطبوعة وإِحراقها أيضًا، وتمضي بقية حياتها بإِخفاء كل أَثَر لها سيرةً شخصيةً ومسيرةً أَدبية.

تلك مأْساة الكاتبة الإِنكليزية روزماري تونْكسْ Rosemary Tonks  (1928-2014).

فما هي قصتُها؟

الانفكاء بعد سُطُوع الشُهرة

في منطق العلاقة المتبادَلَة بين المؤَلف والقارئ، أَن ينتظر الكاتب مَن يقتني كتابه ويفتحَه ويقرأَه لأَنه، وهو يضع كتابه نثرًا أَو شعرًا، يفكِّر عند كل صفحة يُنجزها أَن سوف يطَّلع عليها القارئ. وقلَّما يحصل أَن يتمنى الكاتب إِلغاء القارئ كي لا يطَّلِع على أَيٍّ من كتاباته.

هي هذه حال رواية “السَمك المالح” للكاتبة الإِنكليزية روزماري تونكس: صدرت سنة 1968 ونالت نجاحًا واسعًا، وأُعيد طبعُها قبل أَشهُر (تشرين الأَول/أُكتوبر 2022) بعد ثماني سنوات على وفاة الكاتبة التي ما كانت لترضى بإِعادة طباعتها لو كانت حية لأَنها عملَت على إِنكار وإِلغاء جميع مؤَلفاتها: خمس روايات ومجموعتَين شعريتَين فيهما من أَغرب القصائد.

ولدَت روزماري في لندن سنة 1928، وما بلغَت الأَربعين حتى كانت بلغَت أَكثر مما يشتهي بلوغَه كلُّ مؤلف: شهرة أَدبية واسعة، ومقالات نقدية إِيجابية، وتهافُت الناشرين على تلقُّف مخطوطاتها لإِصدارها.

سنة 1973 كانت في صدارة الموسوعة الشهيرة: “كتاب أُكسفورد لروائع الشعر الإِنكليزي في القرن العشرين”، وتعاونَت لتسجيل قصائدها مع داليا ديربايشير (1937-2001) رائدة الموسيقى الإِلكترونية. وذات فترةٍ كان بيتُها صالونًا أَدبيًّا يستقطب دوريًّا كبار أَعلام الأَدب والشعر والموسيقى في لندن.

هي ورِمْبُو قدَر واحد: كَسْر القلم في عز الشهرة

الأَحداث المأْساوية

غير أَن أَحداثًا فاجعةً غيرَ متوقَّعة حصلت لها في منتصف السبعينات، جعلَتْها تعتكف عن الحياة العامة و… تختفي، أَبرزُها انطفاءُ النور في عينيها على أَثر عملية غير ناجحة في حدقتَيْها. وسنة 1980 غادرَت لندن نهائيًّا، وانسحبَت إِلى المدينة البحرية بورنماوث (150 كلم جنوبيّ غربيّ لندن)، مستأْجرة بيتًا ضئيلًا عُرفَت فيه وفي جواره باسم مسِزْ لايتْبِنْد (اسم طليقها). وعاشت هناك حاملةً هاجس الإِثم أَن تكون ضلَّلَت قراءَها في صفحات رواياتها. لذا أَحرقَت مخطوطاتها، وحرَّمَت أَيَّ ناشر من إِعادة طبع رواياتها برغم نجاح هذه وانتشارها الواسع.

أَرادت أَن تمحو من كلِّ ذاكرةٍ كلَّ طيفٍ في حياتها الأَدبية. وبلغَت حتى أَن راحت تدور على عدد كبير من المكتبات وتشتري نسَخ كتبها وتأْتي بها إِلى حديقتها الخلفية وتُحرقها جميعها حتى تُرَمِّد. وفي هذا العمل دليل واضح على ما مارستْه من تدمير ذاتي لا يقل ضراوة عن الإِقدام على الانتحار.

صحيح أَنَّ في الأُدباء مَن يتنكَّرون لاحقًا لكتاباتهم الباكرة الأُولى، ومنهم مَن يتوقَّفون عن الكتابة في مرحلة معينة من العمر، شاعرِين أَنْ لم يعُد لديهم، أَو في قدرتهم، جديدٌ يُبدعونه. لكنهم لا يكرهون بهذا الحقد الأَسْوَد كتاباتهم المنشورة، كما حقَدَت روزماري على كتاباتها وكُتُبها وكلِّ حياتها الأَدبية منذ مطالعها، وباتت ذاتَ حساسية كارهة كلَّ ما له علاقة بالكتُب والكُتّاب، رافضةً أَن تفتح أَيَّ كتابٍ لها أَو لسواها.

صورتُها على غلاف”الأُبزُرفر”: الشهرة الواسعة 

الحب بعد الطلاق

في قصيدتها “بدويُّ لندن عند المساء” كتبَت: “كنتُ صبيَّةً لزمن طويل…لكنَّ حياتي الشخصية الآن لم يَعُد لها معنى”.

وفي روايتها “السمك المالح” طرحَت سؤَالَها الوُجودي المؤَرِّق: “مع مَن يُمكن أَن أُقيم عَلاقة حميمة”؟ كتبَت ذلك، على لسان بطلة الرواية، بعد طلاقها من زَوْجها الذي كان لها تجسيدًا مباشرًا للحدَث غيرِ السعيد في حياتها، والذي أَورثَها حالةً من الصدمة والاكتئاب، لأَنها اعتبرَت هذا النوع من الزواج المتسرِّع خارطةً هندسية حياتية سيئة، يعيش خلالها الطرَفان في حيادية باردة، لا رومانسية فيها بل سجْن، ولا علاقة فيها من أَيِّ نوع هانئ هادئ، وتنتهي في جو من الإِرغام بعيدٍ عن كل لذَّة معنوية أَو مادية في الحياة المشتركة، وتاليًا تصبح العلاقة “الحميمة” عذابًا واجبًا مفروضًا. وتصِل بطلةُ الرواية إِلى خلاصة حاسمة: إِذا الزواج مِقْبَض الباب الذي يُقفِل على ضيق الحياة، فعلاقة الحب بعدَه هي البابُ الذي ينفتح على وساعة الحياة.

لذا أَطلقت البطلة على حبيبها الجديد لقب “السمَك المالح”، وهو كان مغنّي أُوبرا مشهورًا عرف كيف يحبُّها ويُذيقها الحنان والدلال والفرح والسعادة، وكانت تفتقدها كلَّها قبل طلاقها. واللقبُ استمدَّتْه من طبيعة السمَك المالح الذي، عند تحضيره، ينتفخ صدرُه وينفتح فمه. وكان فان غوخ رسم لوحات عدَّة لهذا النوع النادر من الأَسماك.

روايتُها الخالدة “السمَك المالح”

 

هذا عن روزماري الكاتبة ومسيرتها الأَدبية.

فماذا عن شخصيَّتها الغريبة وسيرتها الذاتية؟

هذا ما أَكشفه في الجزء الثاني من هذا المقال.

زر الذهاب إلى الأعلى