Uncategorizedبأقلامنا

الدكتورة سلوى الخليل الامين : يحتاج الأديب لبيئةٍ متناغمة مع إبداعه

إعداد- حصة البوحيمد

نعرف من سير الأدباء، قديمًا وحديثًا، أن هناك طقوسا أو شحنا ذاتيا؛ لدخول محراب الإبداع والغوص في أُتون الفكرة، هذه الطقوس موجودة عند غالبيتهم، فقد كان الشاعر أبو تمام يسكب الماء على تراب خيمته الحارة وهو في أقصى درجات التوتر وينادي شياطين شعره بأسى (أخوكم أخوكم) ولا يكتب إلا في أول الليل، وكان المتنبي يصوغ شعره على إيقاع خطواته فتتنغم موسيقى قصيدته بالشكل الذي يرتئيه خارجاً عن طوره وهو يسابق خطواته لكتابة القصيدة، وقد تكون طقوساً غريبة أوشاقة أحيانًا، حتى أن بعض الأدباء يستعد لذلك جسدياً مثلما كان يفعل نجيب محفوظ حيث كان يسير مسافات طويلة فيالصباح الباكر ليتهيأ للكتابة، وللروائي الفرنسي فيكتور هيغو عاداته الغريبة في الكتابةفلما كان يخط روايته ”أحدب نوتردام” كان محكوماً بموعد محدد لتسليم الرواية، فقرر خلع ثيابه كلها ليبقى عارياً فلا يقدر على مغادرة المنزل، وبالتالي يتفرغ كلياً للكتابة، وللكاتب الأمريكي الشهير إرنست همينغوي الحاصل على جائزة نوبل عادته الغريبة،  وهي الكتابة واقفاً منتعلاً حذاءً أكبر من مقاسه، وكانت عادة موراكامي الكاتب الياباني هي  الركض” وراء النص، حيث يكتب ساعات طويلة دون توقف، أما ‘دان بروان ‘الكاتب الأمريكي فكان يعلّق نفسه بالمقلوب كي يسترخي ويركز أفكاره، ويعتزل الروائي المصري أسامة أنور عكاشة مجتمعه شتاءً ليكتب، في حين قد تغير الروائية الجزائرية (أحلام مستغانمي) أرقام هواتفها وتنعزل أو تقرر السفر إلى بلد آخر لا يعرفها فيه أحد لتنجو بروايتها بعيدًا عن ضجيج يومياتها المعتادة.

والبعض لا يكتب إلا وبجواره فنجان القهوة، والبعض يفضل الجلوس بالمقهى، فيما يعشق البعض الآخر العزلة، وهناك من يعشق الموسيقى، وهناك من يرتدي ملابسه كاملة كمن يستعد لمغادرة المنزل، والكثير من الطقوس التي قد تختلف من كاتب لآخر  إلا أن شيئاً مشتركا يجمع هؤلاء المبدعين ويضعهم في قالب واحد هوالهروب إلى النص” من سيطرة  الواقع  بطقوس قد نراها نحن القراء غريبة إلا أنها هي التي حفزت  بدون شك عوالم الانبهار فينا.

وما بين الغرابة والطرافة والتلقائية في العادات الكتابية تحاور فرقد نخبة من الأدباء حول هذه الطقوس ومدى ملامستها لذات الكاتب واستحثاثها لكوامنه الإبداعية من خلال المحاور المطروحة:

هل للكتابة الأدبية طقوس من حيث التوقيت وطريقة الكتابة؟  

كيف يكون للأديب طقوسه الخاصة في كتاباته وهل هي مقترنة بالإنتاج؟

هل الطقوس الخاصة بالكتابة عادة  سلوكية استمرت مع الأديب والكاتب أم أنها محفز ذاتي للإبداع ؟

– هل تتحول الطقوس الكتابية  إلى اقتران مشروط للإنتاج مؤثراً غيابها على الإبداع أم ستظل تحت مزاج وخيارالأديب؟

 للكتابة طقوس وللكاتب طقوسه الخاصة، فالكتابة هي تعرجات النفس لما تحوي من عناوين ومشهديات، حيث تتشكل في نص أدبي أو قصيدة لتشكل قوة تلبسها إنسانيتنا بكل ما تحوي الكلمة من معان، قد تكون مفرحة أومؤلمة أو تعالج وضعًا سياسيًا أو اقتصاديًا أو تربويًا أو إجتماعيًا، أو كيفما اتجهت الكلمة الناطقة بحقيقة الوجود، فالأديب أو الشاعر أو الكاتب يحقق التفاعل الذاتي مع الأمور المحيطة به، ويتفاعل معها إن سلباً أو إيجاباً،وبالتالي يتجلى الموضوع بالمعرفة وعالمها الواسعمن هنا فالكتابة عند الشاعر والأديب غيرها عند كاتب بقية النصوص المطلوبة لزوم ما يتفاعل بماض الزمان أو حاضره أو المستقبل، أو عالمنا من رديات.

فالأديب حين يكتب رواية أو نص أدبي لا بد له من الإحاطة بحالة معينة، تجعله قادراً على الكتابة والإنتاج، والشاعر كذلك الأمر، فكلاهما لا ينبت زرعهما إن لم يتفاعلا مع وسطهما أو مجتمعهما أو الأحداث التي تمر، أكانت تتعملق فوق شواهق النفس التي تسجل كل ما يجري في الحياة بدقة متناهية، أو تمسك بلغة تدرك كلتقنيات الحب والفرح والحزن وما إلى ذلك.

فالكتابة الأدبية هي نفح الذات البشرية بكل ما تحويه من مشاعر، فهي تحمل اللغة التي تخاطب سمع الكاتب،التي غزلت موسيقاها من مفردات ومعان تؤثر في نفس الكاتب تأثيراً  إيجابياً، قبل أن يصبح  النص في أيدي القراء، ولي تجربة مع كتابة النص الأدبي ، فأنا كأديبة عندما أكتب النص الأدبي علي أن أنعزل في غرفة خاصة، لا يعكر مزاجي شىء، أطلب الهدوء التام، وأسرح في الخيال، بحيث أنعزل عن كل ما حولي وأعيش جنة النص الذي أنا بصدد خلقه، حين الشعور تلقائيا بأني أتلمس جمالات الكون، وأصعد على أشرعتها، أبحر في دروب هي لي وحدي، أقطف الحروف لأشكلها كلمات تنبعث في سماوات رحبة، تعطي الأمل للقاريء وتوحده في ذاته وتربطه مع الآخرين بلغة نقية بنت لنفسها محطات آمنة كي تصل إلى المتلقي بكل جمالياتها.أما كتابة القصيدة فشأن آخر، فأنا كشاعرة لا يمكنني أن أكتب الشعر في كل الحالات، قد يمضي زمن دون أن تولد قصيدة ما، وقد يأتيني الشعر على حين غرة فأكتب وأكتب إلى أن تنتهي القصيدة، إذن ياعزيزتي للكتابة طقوسها الخاصة بكل كاتب وبتفاعلات الزمان والمكان، والحالة التي يكون الأديب أو الشاعر عليها، وتصبح حافزا للكتابةوليست الطقوس الخاصة بالكتابة عادة سلوكية عند الأديب، كغيرها عند الكاتب، فالأديب تختلف كتاباته عن الكاتب، فالكاتب يكتب نصوصاً سياسية واجتماعية وتربوية إلى ما هنالك من وحي الأحداث التي تمر في الحياة اليومية ويتفاعل معها، كالكاتب الصحفي مثلاً، كتاباته وليدة أحداث معينة، تحفزه مجرياتها على نقل الخبر بدقة وأمانة، بعكس الأديب الذي يكتب بناء لمحفز ذاتي ينبع من وجدانه وشعوره وعواطفه، فيبدع حين يختار مفرداته وتعابيره، فينتقيها كي تكون الأبلغ والأفضل من حيث قيمتها الجمالية وأسلوب سبكها، فأمين نخلة في مفكرته الريفية كتب نصوصاً أدبية ما زالت ثابتة وقائمة في ذهن القاريء ليومنا هذا وإلى زمن آخر، بل هي مرجع يستشار به من حيث الإبداع في صياغة الكلمة والعبارة، حتى لتحسبها صيغت بأنامل صائغ ماهر من حيث سلاسة وطراوة العبارة وجمالياتها حتى لتحسب أنك قادر على كتابة شبيه لها، وهذا هو الإبداع بعينه، وتبقى طقوس الأديب ملكًا خاصًا به، هو يدرك حوليات كتاباته وطقوسها، فالإنتاج الأدبي منوط بما قد يحفز الأديب على العمل من أجل ضخ النتاج الجيد للجمهور، هنا تكون العوامل النفسية له بالمرصاد، فنحن إذا لم نوفر لللأديب بيئة نظيفة للكتابة من حيث تأمين موارد العيش الكريم فكيف له أن ينتج ويبدع، والأديب في عالمنا العربي مشغول دائمًا بتأمين لقمة العيش بينما في دول الغرب يعطى ما يؤمن له معيشة نظيفة ويترك ليكتب وينتج ويبدع، أعطي مثلاً على الأديب الروائي أمين معلوف اللبناني المقيم في فرنسا، اتصلت به يومًا كي أكرمه في لبنان نظراً لمكانته الروائية الناجحة أجابتني زوجته أنه بصدد إصدار رواية جديدة وهو منعزل في جزيرة ” إيل دو ديه ile de dieu ، لأنه بصدد كتابة رواية جديدة، وقبل ستة أشهر لا يعود إلى المنزل، وهو منعزل كلياً ولا يكلم أحداً حتى ينتهي من روايته يعود إلى باريس، هكذا تهيء بيئة الإنتاج للأعمال العظيمة للكتابة وللأديب المبدع، ولا يمكن لنا أن نفرض شروطًا على الأديب مطلقاً، الإنتاج الأدبي هو نتيجة تفاعل الذات البشرية مع مجريات الحياة وجمالاتها كما قلت، وبالتالي لا يجوز مطلقًا أن نحددها بوقت مفروض أو مكان معين أو حالات خاصة، الأدب له طقوسه وحالاته الخاصة التي لا يشعر بها أي إنسان، فالمطر لا يبعث إلا عبر أوانه، والبدر لا يسطع إلاضمن أيام معدودة من الشهر، وهكذا الأديب كي يبدع وينجز، علينا أن نوفر له البيئة المتناغمة مع طبيعته الإنتاجية الحالمة برفيف الحب والحنين والانتماء وهناءة لاهفة إلى التصوف في محراب جمالات الكون ومآسيه، كي ينطلق صوب منارات الإبداع،  مصوباً سهامه نحو المجد متوخياً نور الحقيقة  التي تعبئ الزمن بوعد هو البدء لكل ما هو قيم وجميل.

زر الذهاب إلى الأعلى