أخبار فلسطين

مجزرة صبرا وشاتيلا: ذاكرة الدم والمقاومة. (أحمد مراد*)

مجزرة صبرا وشاتيلا: ذاكرة الدم والمقاومة. (أحمد مراد*)

*مسؤول المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان

في صيف عام 1982، شهدت الساحة اللبنانية واحدة من أكثر الفصول دموية في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، حين أقدمت قوات الاحتلال الصهيوني على اجتياح واسع للبنان تحت ذريعة “إبعاد الخطر الفلسطيني عن الشمال الإسرائيلي”، فيما كانت الحقيقة الواضحة أن المشروع الصهيوني كان يهدف إلى ضرب بنية المقاومة الفلسطينية، وتصفية وجودها العسكري والسياسي في لبنان، وإعادة رسم خريطة التأثير في المنطقة وفقاً لمصالح الاحتلال. وقد وجد الاحتلال في التوترات الداخلية اللبنانية، وضعف الجبهة العربية الموحدة، ظرفاً مثالياً لتحقيق أطماعه التوسعية.

وفي ظل واقع عربي هشّ وصمتٍ مريب، وبينما تدفّق الدعم الأمريكي والغربي على الكيان الصهيوني الغاصب، شَنَّ جيش الاحتلال واحدة من أشرس حملاته العسكرية على العاصمة اللبنانية بيروت. ورغم التفوق الهائل في العتاد والقوة، براً وبحراً وجواً، ورغم أكثر من 80 يومًا من الحصار الخانق والقصف المتواصل الذي طال كل أحياء المدينة بلا استثناء، بقيت بيروت صامدة برجالها ومقاتليها من القوات المشتركة الفلسطينية-اللبنانية. سُطّرت خلال هذه الفترة أروع ملاحم البطولة، إذ أبدى المقاتلون شجاعة استثنائية ومنعوا العدو من التقدم واحتلال المدينة رغم الكلفة البشرية والمادية الباهظة.

جاء هذا الاجتياح بعد سلسلة من التهديدات والمواجهات بين المقاومة الفلسطينية واللبنانية وجيش الاحتلال، حيث كانت الأراضي اللبنانية، وتحديداً الجنوب، تشكل ساحة للمقاومة الفعلية ضد الاحتلال، ومعبراً لعمليات الرد على اعتداءاته المستمرة على الشعبين اللبناني والفلسطيني. ومع تصاعد عمليات المقاومة، سعى كيان الاحتلال إلى ضرب هذا العمق الاستراتيجي، وفرض أمر واقع جديد، من خلال اجتياح لبنان واحتلال عاصمته، في خطوة عدوانية بالغة الدلالة.

لكن الاجتياح لم يكن نزهة، فمنذ اللحظات الأولى للعملية العسكرية الصهيونية، واجه جيش الاحتلال مقاومة عنيفة من فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية، إضافة إلى بعض وحدات الجيش العربي السوري التي تمركزت في مواقع استراتيجية، وكان لها دور مشهود في معارك الدفاع عن السيادة الوطنية اللبنانية، وفي حماية الوجود الفلسطيني. ومن أبرز المعارك البطولية التي سُجلت في الذاكرة الجمعية للأمة، معركة قلعة الشقيف، حيث سطّر المقاتلون ملاحم بطولية في وجه أعتى الجيوش وأحدث الأسلحة، رغم الفارق الهائل في العدة والعتاد.

وكذلك جرت مواجهات بطولية عند مثلث خلدة، جنوب بيروت، خاضت المقاومة معارك شرسة ضد قوات الاحتلال، وتمكنت من إيقاف تقدّمه لعدة أيام، مما كبّدها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. كما شهدت المخيمات الفلسطينية في صيدا وصور، وأحياء العاصمة بيروت، في المتحف، والمدينة الرياضية، والمطار، وغيرها من محاور القتال مواجهات ضارية، حوّلت مداخل وشوارع بيروت إلى ساحات قتال عنيدة، أذهلت العالم في قدرتها على الصمود في وجه آلة الحرب الصهيونية. وكانت تلك المعارك دليلاً قاطعاً على أن المشروع الصهيوني لا يمكن أن يمر بسهولة، وأن إرادة الشعوب أقوى من ترسانة العدو، مهما بلغ جبروته. لكن، ومع تصاعد الضغط العسكري والسياسي، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، أعقبه خروج مقاتلي الثورة الفلسطينية من بيروت برعاية وضمانات أميريكية ودولية، ما مهد الطريق لواحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث (مجزرة صبرا وشاتيلا).

إننا إذ نستحضر تفاصيل تلك الجريمة والمأساة الإنسانية ليس بهدف البكاء على الأطلال، بل لتجديد العهد مع الحقيقة، والتأكيد على أن العدالة لم تتحقق بعد، وأن ذاكرة المجازر لا تسقط بالتقادم، خاصة عندما تكون العدالة غائبة، والقاتل معروف، والشاهد الدولي صامت .

وفي ذروة الحصار، جرى توقيع اتفاق ما عرف بإتفاق “فيليب حبيب”، المبعوث الأمريكي، الذي قضى بخروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت مقابل ضمانات أمريكية واضحة بعدم دخول جيش الاحتلال إلى المدينة، وتأمين الحماية للاجئين الفلسطينيين في المخيمات. إلا أن هذه الوعود كانت مجرّد غطاء سياسي لمخطط خبيث، سرعان ما انكشف زيفه. فبمجرد خروج المقاتلين، اجتاح جيش الاحتلال المدينة، وحاصر مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث ارتُكبت واحدة من أبشع المجازر في تاريخ البشرية، وسط صمت دولي مخزٍ وتواطؤ أمريكي مكشوف.

لقد مثّلت معركة بيروت رقمًا بطوليًا صعبًا في وجه الغطرسة الإسرائيلية، وكشفت زيف الادعاءات الأمريكية بشأن حقوق الإنسان والسلام، مؤكدة أن الصمود والمقاومة وحدهما القادران على كسر المعادلات الظالمة، مهما اختلّ ميزان القوى.

في السادس عشر من ايلول، ارتُكبت واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث داخل مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت الغربية، حيث اقتُحمت المخيمات من قبل ميليشيات محلية تابعة لجيش الاحتلال ومدعومة منه، وبإشراف مباشر من مجرم الحرب أريئيل شارون وزير الحرب الصهيوني آنذاك. استمرت المجزرة لمدة ثلاثة أيام، في ظل حصار محكم فرضه جيش الاحتلال الذي كان يحتل العاصمة بيروت، ومنع دخول الصحفيين ووسائل الإعلام، وأعطى الضوء الأخضر لارتكاب الفظائع بحق المدنيين العزل. حيث أقدم القتلة بإعدام عائلات بأكملها، وشُوّهت الجثث، وقُطّعت أوصال النساء والأطفال، واغتُصبت النساء قبل قتلهن، وبقرت بطون الحوامل، واستُخدمت أدوات حادة وبنادق لتنفيذ عمليات القتل الجماعي. واستخدمت الجرافات والاليات في تدمير البيوت على أصحابها في محاولة لإخفاء بعض معالم الجريمة. وقدّرت منظمات دولية ومحلية عدد الضحايا بين 2500 إلى 3500 شهيد، غالبيتهم من اللاجئين الفلسطينيين إلى جانب لبنانيين فقراء. وحتى اليوم، لا توجد حصيلة دقيقة لأعداد الشهداء بسبب دفن الجثث في مقابر جماعية دون توثيق، في مشهد يندى له جبين الإنسانية.

وأُنشئت لجنة “كاهان” الصهيونية التي عملت للتستر وإخفاء الحقائق. ولم يُحاسب أي من المسؤولين اللبنانيين أو الصهاينة عن الجريمة، رغم الإدانات الدولية الخجولة. كما أُجهضت محاولات إقامة محكمة دولية، فيما تجاهلت المؤسسات القضائية العالمية دعوات الضحايا للمحاسبة، ما يعكس فشل النظام الدولي في حماية الشعوب المستضعفة وتحقيق العدالة.

ورغم مضي أكثر من أربعة عقود، تبقى مجزرة صبرا وشاتيلا جرحًا مفتوحًا في الذاكرة الفلسطينية والعربية، وشاهدًا دامغًا على وحشية الاحتلال وتواطؤ القوى الإقليمية والدولية في طمس معالم الجرائم ضد الإنسانية، في ظل ازدواجية المعايير التي تحكم المشهد الدولي.

لم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا استثناءً في تاريخ الكيان الصهيوني، بل حلقة ضمن سلسلة طويلة من المجازر التي بُني عليها هذا الكيان منذ نشوئه عام 1948، مروراً بدير ياسين، وكفر قاسم، وقانا، وجنين، ومجزرة بحر البقر، ومجازره المتواصلة في قطاع غزة. فالإبادة والتطهير العرقي نهج راسخ في العقيدة الصهيونية، يُمارس بشكل ممنهج ضد الشعب الفلسطيني، بهدف اقتلاع الهوية وتفريغ الأرض من أهلها لصالح مشروع “إسرائيل الكبرى”.

إن ما يحدث اليوم في قطاع غزة من إبادة جماعية ودمار شامل هو استكمال لتلك السياسات، بتواطؤ دولي مكشوف، وانخراط للولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تعد تكتفي بالدعم السياسي والعسكري، بل أصبحت شريكاً فعلياً في القتل والتدمير، وتسليح الكيان، وتوفير الحماية السياسية والأمنية والدبلوماسية له.

إن الضمانات والوعود الأمريكية التي سُمّيت بـ”عملية السلام” ما هي سوى واجهة لخداع الشعوب، بينما على الأرض، كانت فلسطين تتقلص، والقتل يتصاعد، والاستيطان يتمدد. كما نشهد اليوم، نشهد محاولة لإعادة رسم خارطة المنطقة وفقاً لأجندة صهيو-أمريكية تهدف إلى تفتيت الدول، وتمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي، خدمةً للمشروع الاستعماري الصهيوني. وعليه، فإن استلهام الدروس من مجزرة صبرا وشاتيلا وغيرها من المجازر ليس خيارًا بل واجب. يجب أن ندرك أن الصمت والتهاون يقودان إلى مزيد من الكوارث، وأن وحدة الموقف العربي والمقاومة بكل أشكالها هي السبيل الوحيد لكسر المشروع الصهيوني-الأمريكي الذي يستهدفنا جميعاً، وليس فلسطين وحدها.

في ذكرى المجزرة لن نغفر، ولن ننسى. فصبرا وشاتيلا ليست مجرد ذكرى، بل عهد نُجدده في كل عام، أن تبقى دماء الشهداء أمانة في أعناقنا، وصوتًا يصدح بالحق في وجه القتلة والمجرمين.تحية إجلال لكل من سقط شهيدًا في تلك الليالي الحالكة، للأمهات الثكالى، وللناجين الذين حملوا الوجع في عيونهم ولم ينكسروا. لكل من لا يزال يحمل راية القضية، رافضًا النسيان أو المساومة، ولكل صوت حر يُبقي الذاكرة حيّة لا تموت.

وستظل مجزرة صبرا وشاتيلا شاهدًا على خيانة العالم وصمت المتواطئين، لكنها أيضًا عنوان لصمودنا، ودليل على أن الحق لا يموت ما دام هناك من يؤمن به، ويقاتل من أجله. وسلام على من ما زالوا يقاومون.

زر الذهاب إلى الأعلى