الشرق الأوسط بين أنقاض الحرب وصراع الدم وأوهام القوة وابادة العصر بقلم د. شريف نورالدين.

بتاريخ: 21 / 11 / 2024
الشرق الأوسط بين أنقاض الحرب وصراع الدم وأوهام القوة وابادة العصر
في زمن توغل فيه الظلم وتجردت فيه الحروب من أبسط معايير الإنسانية، تشهد المنطقة واحدة من أعنف الكوارث الإنسانية والسياسية في تاريخها الحديث. حرب تجاوزت كل حدود الجرائم المألوفة، لتسطر فصولاً دامية من القتل والدمار. ما يزيد عن 50 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 100 ألف جريح، إلى جانب تدمير شامل للبنية التحتية والمدن، يرسم صورة قاتمة لمأساة لم تعد تقتصر على ميدان القتال، بل باتت تلتهم قلوب وآمال الملايين في المنطقة. في هذه الحرب، لم يكن الاستهداف العسكري مجرد أداة لتحقيق أهداف سياسية، بل تحول إلى وسيلة للإبادة المنظمة، تخللتها حسابات ضيقة واستراتيجيات فاشلة على مختلف المستويات.
وفي مشهد إقليمي متأزم وعالمي يعج بالتوترات، تبدو إسرائيل اليوم أمام تحدٍ تاريخي غير مسبوق، حيث تتعمق أزماتها الداخلية وتتراكم إخفاقاتها الاستراتيجية في حرب طاحنة مع “حزب الله”.
هذه الحرب، التي اندلعت على وقع اغتيال قيادات بارزة في الحزب، تجاوزت كل التوقعات لتتحول إلى صراع مفتوح ذي أبعاد محلية وإقليمية ودولية.
في موازاة ذلك، يشكل فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية بُعداً إضافياً يزيد من تعقيد المشهد، إذ يعيد واشنطن إلى قلب الصراع برؤية هجومية تستهدف إيران ومحورها الإقليمي.
ولكن بين الأزمات الداخلية، رهانات الدعم الأمريكي، واستنزاف طويل الأمد، تبدو إسرائيل في مواجهة اختبار حقيقي لقدرتها على الصمود وسط رياح التغيير العاتية.
حرب بلا أفق
إخفاقات إسرائيل العسكرية والاستراتيجية
منذ أكثر من عام، تخوض إسرائيل حرباً مفتوحة مع حماس في غزة وحزب الله في لبنان دون تحقيق أي من أهدافها المعلنة.
كما لم تتمكن من إعادة الاسرى، ولم تنجح في إعادة النازحين من مستوطنات الشمال، بينما يستمر حزب الله في إطلاق الصواريخ والمسيّرات على الداخل الإسرائيلي بوتيرة لم تشهدها الحروب السابقة.
على الرغم من التدمير الواسع الذي ألحقته إسرائيل بلبنان وقطاع غزة، فإن المقاومة، أثبتت قدرتها على الصمود والتكيف، مما حرم إسرائيل من تحقيق أي مكاسب استراتيجية.
أزمة الجيش الإسرائيلي بين تآكل الروح القتالية وانهيار البنية
الجيش الإسرائيلي، الذي طالما اعتُبر ركيزة أساسية لأمن الدولة العبرية، يواجه أزمة وجودية.
تشير التقارير إلى أن 40% من قوات الاحتياط ترفض الاستجابة لدعوات التعبئة، بينما يعاني الجنود النظاميون من الإرهاق النفسي والجسدي.
لذا؛ سلاح البر، الذي كان يُفترض أن يكون رأس الحربة في العمليات العسكرية، يعاني من نقص حاد في الأفراد والمعدات، ما يجعله عاجزاً عن تنفيذ أي مناورة عميقة. رئيس الأركان، هرتسي هليفي، يواصل تقديم صورة متفائلة تخفي واقع التفكك الداخلي، بينما تواجه القيادة العسكرية صعوبة متزايدة في احتواء الموقف.
الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تهديد وجودي
الحرب المفتوحة أرهقت الاقتصاد الإسرائيلي، حيث بلغت خسائره مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى انهيار قطاعات حيوية وزيادة معدلات الهجرة إلى الخارج.
المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة انقسام داخلي عميق بين معسكرات متصارعة سياسياً وأيديولوجياً، مع تصاعد الأصوات التي تحذر من خطر حرب أهلية.
في الوقت ذاته، الدعم الدولي لإسرائيل يتراجع، إذ تواجه تل أبيب انتقادات متزايدة بسبب سياستها العدوانية، مما يضعف موقفها السياسي على الساحة الدولية.
فوز ترامب فرصة أم مخاطرة؟
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض جاءت كطوق نجاة مؤقت لحكومة نتنياهو(اكزينو) ، التي تواجه أزمات متصاعدة.
ترامب، المعروف بدعمه غير المشروط لإسرائيل، قد يعيد الزخم لعلاقاتها مع واشنطن عبر تعزيز الدعم العسكري والاستخباراتي، لكن هذا الدعم ليس مجانياً، إذ يعوّل ترامب على استخدام إسرائيل كورقة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، ما قد يدفعها إلى تصعيد غير محسوب ضد إيران وحلفائها.
في المقابل، فإن الرهان الإسرائيلي على ترامب محفوف بالمخاطر؛ فنجاحه في إحداث تغيير جذري في معادلات المنطقة ليس مضموناً، بينما قد يؤدي أي تصعيد كبير إلى نتائج كارثية على إسرائيل نفسها.
حزب الله وإيران واستراتيجيات الصمود والهجوم
رغم الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله، إلا أنه أثبت مرة أخرى مرونته القتالية، ونجح في استنزاف إسرائيل عسكرياً واقتصادياً.
إيران، من جهتها، تستغل الوضع لتعزيز دورها الإقليمي، حيث تواصل تقديم الدعم لحلفائها وتوسيع دائرة المواجهة لتشمل جبهات متعددة.
لذلك؛ التصعيد الإسرائيلي المتواصل يعزز موقف المقاومة ويزيد من فرص تحالفها مع قوى إقليمية ودولية معادية للهيمنة الأمريكية.
رؤية استراتيجية إلى أين تتجه المنطقة؟
الصراع الحالي يضع المنطقة أمام سيناريوهات معقدة:
1- تصعيد شامل: في حال استمرار الدعم الأمريكي، قد تنزلق إسرائيل إلى مواجهة إقليمية واسعة تشمل إيران وسوريا، مما يؤدي إلى كارثة استراتيجية.
2- تهدئة تكتيكية: الولايات المتحدة قد تضغط لفرض تهدئة مؤقتة تسمح لإسرائيل بالتقاط أنفاسها، دون أن تعني إنهاء الصراع.
3- حرب استنزاف طويلة: استمرار المواجهات بشكلها الحالي قد يؤدي إلى استنزاف متبادل يزيد من معاناة المدنيين ويُبقي المنطقة في حالة غليان دائم.
4- تغير جذري في المعادلة الإقليمية: أي تدخل مباشر لإيران أو تحالفات إقليمية جديدة قد يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط بشكل جذري.
التحديات أمام إسرائيل
في ظل هذه المعطيات، تواجه إسرائيل تحديات كبرى:
1- انهيار الثقة الداخلية: الانقسامات السياسية والاجتماعية تهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي.
2- الأعباء الاقتصادية: الحرب المستمرة تلتهم موارد الدولة وتزيد من الفقر والبطالة.
3- فقدان السيطرة العسكرية: المقاومة تستمر في تطوير قدراتها، ما يجعل احتواءها أمراً بالغ الصعوبة.
خلاصة
إسرائيل اليوم تقف أمام مفترق طرق تاريخي.
استمرار الحرب دون تحقيق أهدافها يضعف موقعها داخلياً وخارجياً، في ظل الرهان على الدعم الأمريكي سيعمق أزمتها الاستراتيجية.
كما ان الشرق الأوسط على أعتاب مرحلة جديدة من الصراعات، حيث قد يتحول التصعيد الحالي إلى مواجهة شاملة أو يعيد تشكيل المعادلات الاستراتيجية بشكل جذري.
لكن الأكيد أن ما بعد هذه الحرب لن يكون كما قبلها، وأن المنطقة مقبلة على تغييرات عميقة لن تقتصر على الجغرافيا، بل ستطال موازين القوى وهياكل النفوذ الدولية والإقليمية.
وفي وسط هذا الدمار غير المسبوق، وبين صراخ الأطفال وصمت الأنقاض، تقف المنطقة على مفترق طرق.
حرب أدمت الشعوب، استنزفت الطاقات، وأظهرت هشاشة الأنظمة المتصارعة.
لكن الحقيقة الأكثر فداحة تكمن في أن هذه المأساة ليست مجرد صراع مسلح؛ إنها امتحان لإنسانية العالم، ولقدرته على الوقوف أمام آلة الإبادة التي لا تفرق بين طفل وشيخ، ولا تعرف معنى الرحمة. هل ستكون هذه الحرب الوحشية مجرد فصل آخر في كتاب الدم والدمار؟ أم أنها ستصبح نقطة تحول نحو مراجعة شاملة للمسارات السياسية والاستراتيجيات التي تقود المنطقة إلى الهاوية؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل المتصارعين، بل أيضاً مصير أمة بأكملها، بين أنقاض الحاضر وأحلام السلام المبتعدة.