ماريَّا ميريان: امرأَة غيَّرَت في تاريخ العلْم (1 من 2) بقلم الشاعر هنري زغيب
المصدر: بيروت-النهار العربي
في تاريخ العلُوم أَعلام أَوجدَت اكتشافاتُهم العلمية جديدًا طوَّر العلْم نحو هناءَة أَكثر للإِنسان وطريقة تعاطيه مع سائر الكائنات حوله في الحياة المدينية أَو الريفية أَو البرية.
وغالبًا ما يكون أُولئك الأَعلام من الرجال. سوى أَنّ نساءً دؤُوباتٍ على العلْم وأَبحاثه سجَّلْن في تاريخ العلوم اكتشافاتٍ مهمةً طوَّرت في اختصاصهنَّ من فروع تلك العلُوم، ومنهنَّ ماريَّا ميريان التي عملَت في حقل النباتات والحشرات الأَليفة فاكتشَفَت فيه جديدًا غيَّر في مسار هذا العلْم قبلها.
ماذا عن ماريّا؟ وماذا عن اكتشافاتها؟
إِطلالةٌ أُولى
يَسِمُونَها “فنانةً”، ومع ذلك هي عالِمة غيَّرت في تاريخ العلْم.
في القرن السابع عشَر، كان في السائد العام أَنَّ الحشرات تولد من الوحل أَو الغبار أَو من اللحم المتعفِّن. لكنَّ هذه المعتقدات تغيَّرَت اليوم إِلى ما بتنا نعرفه عنها. وحدَثَ ذلك بفضل السيِّدة ماريَّا سيبيلَّا ميريان Merian (1647-1717) وهي عالِمة تُعتَبَرُ اليوم أَحد أَوائل الروَّاد البيئيين في العالَم، وأَحد أَبرز من ساهَمَ في تطوير علْم الحشرات، وهي أَول امرأَة عبَرت المحيط الأَطلسي من أَجل متابعة أَبحاثها العلمية.
أُولى البدايات
تلقَّنَت أُصول الرسم الأُولى من زوج والدتها. ومنذ طفولتها فصباها نما لديها الميل إِلى تجميع الحشرات الأَليفة والنباتات الصغيرة. وحين كبرَت وتمرَّسَت في ذلك التجميع، كتَبت في مجموعاتها أَبحاثًا، وبدأَت سنة 1675 تنشر رسومها عن الحشرات الأَليفة والنباتات.
بعد طلاقها من زوجها في نهاية القرن السابع عشر، انتقلَت إِلى أَمستردام. وهناك توسَّعت أَبحاثُها البيئية لدى التجمُّعات المحيطة. وسنة 1699 حقَّقت حلمها بالسفر إِلى السورينام (دولة صغيرة على الشاطئ الشمالي الشرقي من أَميركا الجنوبية) لأَن فيها بيئة غنية بالنباتات الاستوائية والحشرات الأَليفة المميزة.
سنة 1705 أَصدرت كتابها/المرجع “تحوُّل أَحوال الحشرات في السورينام”، وفيه أَبحاث دقيقة مفصَّلة وموثَّقَة بالنصوص والرسوم عن الحشرات الأَليفة في السورينام، وكيف تتفاعل مع البيئة المحيطة. وهي أَبحاث تناولها لاحقًا عدد كبير من الباحثين الإِيكولوجيين مستندين إِلى نتائج ما كانت وصلت إِليه ماريا.
حشرات وأَزهار بريشة ماريَّا
ملامح من سيرتها ومسيرتها
ولدَت ماريا سنة 1647 في مدينة فرنكفورت إبان الحكم الروماني الأَمبراطوري المقدس. وهي المولود التاسع في أُسرة ميريان لفرع فرنكفورت في مدينة بيزيل السويسرية. والدها ماتيوس كان حفارًا وناشرًا متخصِّصًا في نشْر خرائط المدن، وأَصدر سلسلة في أَجزاء عدة عن “الطوبوغرافيا الجرمانية”. لكنه توفي سنة 1650 وابنته طفلةٌ في الثالثة، فتزوجَت أُمها من جاكوب مارِّل (أَلماني، رسّام يعيش في أُوتْرخْت)، نشأَت ماريا في كنَفه، وتأَثرت بِجوّه الفني. وعصرئذٍ لم تكن التربية الفنية شائعة ولا مُتاحة للبنات، لذا غنمت ماريا من تربية زوج أُمها في البيت.
فواكه وأَوراق وبَيْض يَرَقات بريشة ماريَّا
التجميع الأَوَّل
منذ طفولتها الأُولى راحت تجمَع من محيط البيت نباتاتٍ صغيرةً وحشراتٍ أَليفةً، وتراقب تلك الكائنات البرية في حياتها اليومية، ما ساعدها لاحقًا على تكوين أَفكار عنها سكَبَتْها في كتاباتها ورسومها. وهو ما عبَّرَت عنه يومًا: “في البداية، رحت أَجمع دود القز من محيط بيتنا في فرنكفورت. ثم اكتشفتُ يَرَقات أُخرى تنتج هي أَيضًا فراشات جميلة كما دود القز. وهذا ما قادني إِلى جمع عدد كبير من اليَرَقات كي أُراقب تطوُّرَهُنَّ وتَحوُّلَهنَّ من حالة إِلى حالة حتى ولادة الفراشات”.
الزواج والكتاب الأَول
سنة 1665، وكانت في الثامنة عشرة، تزوَّجت من يوهان إِندرياس غْرَافّ (تلميذ والد أُمِّها)، وانتقلت لتعيش معه في نورمبرغ. أَنجبت منه ابنتين، وعاشت معه 14 سنة كانت خلالها تُواصل جمْع ما يتيسَّر لها من نباتات وحشرات أَليفة، أَخذَت تحفظها رسمًا أَو حفْرًا. وإِذ أَخذت تعطي دروسًا خاصة في الرسم للصبايا العازبات في الأُسَر الغنية، كانت لها فرصةُ النزول إِلى حدائق أَهلهنَّ، وجمْع ما يتيسَّر لها من نباتات وحشرات صغيرة بين زهور تلك الحدائق.
رسوم ماريا لأَزهار تلك الفترة ونباتاتها وحشراتها ظهرَت مطبوعة سنة 1675 في مؤَّلَّفها الأَول: “كتاب الزهور” من ثلاثة أَجزاء، ثم في الطبعة الثانية منه بعنوان “كتاب الزهور الجديد”.
تلك التنقُّلات خارج البيت لدى الأُسَر وفي الحقول والبساتين، لم تكُن في مأْلوف الاتِّباع التقليدي عصرئذٍ، إِذ كان على المرأَة الزَوجة أَن تَلْزَمَ بيتها وتنصرفَ كليًّا إِلى تربية أَولادها.
الكتاب الثاني
سنة 1679، بُعَيْدَ ولادة ابنتها الصغرى، أَصدرت كتابها الثاني “اليَرَقات، وتحوُّلُها العجيب، واغتذاؤُها الغريب من الزهور”، وهو عن الحشرات التي شرحَت عنها بتفصيلٍ موسَّعٍ وبرسُومٍ دقيقةٍ كيف، من حال إِلى حال، تتحوَّل اليرَقات إِلى فراشات. فكان هذا الكتاب رائدًا في حقله عن الحشرات الأَليفة ومفهوم التعاطي معها، وكان فتحًا جديدًا للتأْليف في هذا الموضوع العلْمي الدقيق. فقبْلها كانت الدراسات في عصرها تقتصر على مجرَّد جمْع تلك الحشرات الأَليفة، فيما هي رَسَمتْها ووضعَت لها شروحًا وتحاليلَ عن كيفية تكاثرها وتَوَالدها، وكان ذلك جديدًا كلِّيًّا في عصرها.
في تلك السنة ذاتها، وضع لها جاكوب مارِّلْ (زوج أُمها) رسمًا موفَّقًا بدَت فيه امرأَةً ميسورةً تلبس ثوبًا أَسود أَنيقًا، وتغطِّي كتفيها بشال أَبيض.
ما الذي حصل في زواجها؟ وكيف أَكملَت الطريق إِلى اكتشافاتها الرائدة؟
هذا ما أَسرُدُهُ في الجزء الثاني من هذا المقال.