ثقافة ومجتمع

دولة لديها الأوركسترا الوطنية الإيرانية بهذا المستوى الحرفي لن تهزم بقلم // جهاد أيوب

الأمة التي تؤمن بأن الفن رسالة تفوق وحضارة لن تغيب عنها الشمس، فكيف إذا كانت محاصرة من دول تدعي الحضارة، وهم هذه الدول قتل الأبرياء واستعمار خيرات البلاد، وتزوير الحقائق من خلال سياستها وإعلامها وفنونها، ومع ذلك نجد هذه الدولة المحاصرة تزرع الحلم في روح الأمل، وتتفوق في رسم ملامح اشراقة الشمس على حضورها…أعني لن تغيب شمس حضارتها التي كونتها عبر سنون التعب والحجر والبشر والتاريخ…بإختصار…دولة لديها أوركسترا بهذا المستوى الحرفي والعديد لن تهزم…إنها إيران…حضارة لن تموت لآنها حرية وتحرر، لآنها انطلاقة إلى أفاق أوسع…بهذا خرجنا أمس بعد أن استمتعنا من عزف فرقة الأوركسترا الوطنية الإيرانية على مسرح رسالات في منطقة الغبيري.
هدوء تام، تنظيم مدروس، مسرح صغير لكنه احتوى قطع موسيقية ضخمة وصغيرة تنتظر اربابها كي يفوح منها عطر الإبداع، وبلحظة خاطفة دخل المسرح حوالي 45 عازفة وعازف من مختلف الاجيال بمشاركة مجموعة من كورال لبناني …وأطل بثقة عارمة قائد الفرقة المايسترو الإيراني برديا كيارس…وانطلقت أجواء سحرية خاصة.
أوتار مفعمة بالمحبة، غارقة بالروحانيات المتصوفة، وبإشراقة الفردوس الذي جمعنا عبر نغم يرسم ملامح السحر برشاقة ومهارة ودقة لا شائبة فيها.
نحن نصغي، والشرق يلملم معنا جماليات مشرقه، يصلي في معبد الهبة الموهبة مع صفاء الروح.
شعرنا بكل هذا الحمل الجميل الإلهامي مع المعزوفة القطعة الأولى، إلى أن شعرنا بدعسات أقدام الخيل من حولنا، خيول تستعد للسفر من أجل المواجهة، من أجل حرب الجنون، وحينما تلتقي الخيالة تصنع غبار الانتصارات، وتترك انتكاسات هزيمة مع غبار خيول معادية اتعبها المشوار.
عزف فيه مقطوعة مشبعة بالتراث الإيراني بشكل اوركسترالي ليعلن من خلالها لحظة نصر، والدخول بعدها إلى معنى الفوز الموعود بكأس الكبرياء…
استراحة قصيرة، الطبول تعزف موسيقى الفيلم العالمي “الرسالة” للموسيقي الفرنسي الشهير موريس جار، عزف رشيق، قرأ النغمة بصدق، وحافظ عليها مع توزيع جديد سريع الحفظ، وفيه الكثير من جمال العزف والتوزيع.
بعد استراحة طويلة نوعاً ما، عاد المايسترو برفقة المنشد الإيراني اشكان كمانكَرى حيث قدم من خلال صوته الجهوري أكثر من وصلة استطاع أن يغرد بطبقاته المنخفضة والمرتفعة بإحساس مفرط، وبتقنية تدريبية عالية، وبثقة لقدراته، وقد ارتفع احساسه مع مناشدة حبيبة بعاطفة ظهرت على ملامحه، ووصلتنا بدهشة:
“كيف لعنقود العنب أن يحزن”…ومن ثم ذهبنا بسفرة مع عزف منفرد تميز ببراعة دون صخب، وأداء أغنية “أغنية وموسيقى” بدأها بموال يتطلب مقدرة وإحساس عميق ” أنا ذاك الناي الذي فارق قلب الحبيب، لا يقوى قلبي على مغادرة عتبة الحبيب، حتى اشفى من إصابتي وضعفي، أنا لن أترك طريق هذا الحب، لو أن القلب ما مال لذاك الحبيب، لكنت صلباً تائباً مثل هذا الجدار، ومن ابتليت بحبه لا ينظر إليَّ حتى أشفى، ولا لي حيلة للبقاء أو الرحيل، إلى أين أذهب وخطاي معلقة بحبه، سافِروا يا رفاقي واتركوني إني مبتلى….”.
ومن ثم أغنية وطنية تتطلب افتعال النشاط والحيوية في حنجرة مطواعة ” أيتها المحمية بلطف الله إيران الخالدة”، ومن ثم عزف منفرد مع تزاوج النغمات الشرقية بنغمات البيانو حيث شعرنا أن الإنسان يركض في فضاء لا ينتهي.
” نفذ صبري بإنتظار بلقيس
ذوبيني عشقاً ولا تقتليني
أرى شعرك مسرحاً ضفيرة ضفيرة شعرة شعرة
لا تشعلي قلبي مثل شعرك المجنون
إذا انهمر الغيث في مدينة عينيك
فلا تستضيفيني إلا في هذه المدينة”
صوت المطرب اشكان مقتدر، متدرب، يغني بتقنيات عالية، ويستطيع ان يطوع النغم كما تتطلب حالته، والأهم تعامله مع الحرف الكلمة بذكاء، باستطاعته أن يؤدي كل أنواع الغناء، والأهم يتميز بدخول الحالة من عشق إلى الوهام إلى وطني وتعبيري بثقة.
بعد ذلك مسك الختام مع صعود الكورال ليشعل المسرح حماسة زادت رونقاً، وكانت تحية إلى الأرض، والشرف، والوطن، والقضية، والسيد الأمين ” يا أيها العربي والمتنسك الأممي، ما بال محراب التعبد والتصوف والفدا”.
ما قدمته الأوركسترا الوطنية الإيرانية في تلك الأمسية تجعلنا نرفع القبعة لكل افرادها، فما اصابتنا به من حس الذوق، ورفاهية الجمال، والاستمتاع بنغمات شرقية بأداء عالمي افتقدناه من زمن، وها نحن زدنا يقيناً أن الفنون هي شعار الشعوب والدول الباحثة عن حضارة لا تغيب عنها الشمس مهما حقد الحاقدون…

▪الحدث كان برعاية وحضور وزير الثقافة اللبنانية القاضي محمد مرتضى، وبحضور معالي وزير الثقافة الإيرانية د. محمد مهدي إسماعيلي، وبدعوة من المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان، ووزارة الثقافة اللبنانية، والجمعية اللبنانية للفنون رسالات تم افتتاح أيام الفجر الثقافية على مسرح رسالات.

زر الذهاب إلى الأعلى