بأقلامنا

قصة اللقاء التاريخي السري بين الامام موسى الصدر والدكتور جورج حبش واين اتفقا… واين اختلفا بقلم بسام ابو شريف

قصة اللقاء التاريخي السري بين الامام موسى الصدر والدكتور جورج حبش

                                                واين اتفقا… واين اختلفا

يكشف بسام ابو شريف الذي كان رئيسا لتحرير ’’مجلة الهدف‘‘ التابعة للجبهة الشعبية عن مضمون اللقاء الذي جمع بين الإمام السيد موسى الصدر والدكتور جورج حبش بدور منه ومن عبد الهادي محفوظ التي نُشرت في صحيفة الرأي العام تاريخ 16 تشرين الاول 2022 والتي تُنشر الآن على مواقع التواصل الاجتماعي

ذات يوم من أيام الحرب الاهلية اللبنانية في آخر يوم من أيام الصراع الذي دار بين القوى اليمينية المرتبطة بالمخططات الامريكية الإسرائيلية وبين القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية ذات يوم حضر الى مكتبي في مجلة الهدف وكنت في حينها رئيس تحرير مجلة الهدف التي كانت المجلة الأكثر شعبية بين القوى السياسية اليسارية والقوى السياسية القومية والقوى السياسية التقدمية في العالم العربي وفي المهجر حضر الى مكتبي صديق لبناني ما زال حيا يرزق وطلب من سكرتيرتي ان يراني لدقائق .

وما ان ابلغتني بان صديقي عبد الهادي محفوظ موجود ويريد رؤيتي حتى سارعت انا وفتحت الباب وقلت له اهلا وسهلا تفضل فدخل عبد الهادي محفوظ الى مكتبي وهو يبتسم كعادته دون توقف وجلس هناك وتحدثنا قليلا حول مجريات الأمور وحول هزيمة القوى اليمينية او على الأقل عدم نجاحها في تنفيذ مخططها وتحدثنا عن نهوض القوى الإسلامية وانضمامها الى الجانب الوطني القومي التقدمي ووقوفها ضد اليمين الذي يتحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة ضد مصالح الشعبين اللبناني والفلسطيني ، كان من الواضح ان عبد الهادي يريد ان يقول شيئا وان الحديث الذي دار بيننا كان حديثا عاديا يسرع عبد الهادي بالتحدث حوله باقتضاب حتى يصل الى النقطة الجوهرية التي جاء من اجلها .

وفي اللحظة التي ساد صمت قليل فيها التفت عبدالهادي الي وقال أستاذ بسام انا احمل رسالة لك قالها بتهذيبه العادي فهو رجل مهذب ولطيف ودمث ومبتسم ولطيف مع كل الناس ولذلك كانت الناس تحبه وتعامله باحترام متبادل وبلطف متبادل وبطيبة متبادلة فقلت له تفضل ما هي الرسالة .

قال لي عبد الهادي لا اخفيك انا على علاقة وثيقة بسماحة الامام موسى الصدر وانا اتحرك معهم في حركة المحرومين من اجل رفعة شأنها ولقد حدثني سماحة الامام حول الاعلام وحول أهمية الاعلام وحول هذه المرحلة التي تحتاج اكثر من أي مرحلة أخرى للاعلام الذي ينفذ ويصل للمواطن .

صمت عبد الهادي قليلا ثم تابع ليقول وسماحة الامام معجب بالهدف ومعجب بكتاباتك وقد طلب مني ان اعرفك عليه.

وساد صمت.

نظرت اليه وقلت له سماحة الامام معجب بما اكتبه!

قال نعم.

فقلت له يشرفني ان اتعرف على سماحة الامام فهو شخصية متميزة ولها صفات متميزة وله طلة متميزة واحب جدا ان التقي به لاتعرف على هذه الشخصية البارزة ذات النفوذ الكبير والاحترام الواسع.

كان جوابي ذلك فوريا ودون ان اعود لاي مرجع تنظيمي ودون ان اطرح ذلك في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كنت عضوا فيه في ذلك الوقت .

لم تكن هنالك علاقة بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الحرومين او حركة امل كان هنالك نوع من الحائط غير المبرر لعدم وجود علاقة بين الجبهة الشعبية وبين حركة المحرومين وكنت دائما اتسائل لماذا هذا الحائط ومن هو الذي بنى هذا الحائط وكانت الأمور تئن تحت وطأة بعض الجمل الثورية من أصحاب الجمل الثورية الذين كانوا جل ما يريدون عدم لقاء الجبهة الشعبية بحركة المحرومين لان في ذلك قوة للقوى الوطنية المقاومة لتحكم الاسنعمار وعملاء الاستعمار لرقاب البشر .

أقول هذا بعد انكشاف بعض الأمور لاحقا في صفوف الجبهة الشعبية ممن كانوا قد اندسوا لبث آراء متطرفة لا تخدم المصلحة الوطنية ولا المصلحة التقدمية ولا مصلحة المقاومة.

التفت الى عبد الهادي محفوظ وقلت له انا جاهز رتب الأمور في أي لحظة يريدها سماحة الامام ساكون جاهزا لارافقك الى حيث هو.

تم ذلك بسرعة فقد اتصل بي عبد الهادي بعد يومين وقال سيتم الاجتماع اليوم اذا لم يكن لديك مانع فقلت له انا تحت تصرف سماحة الامام وعندها قال سامر عليك الساعة العاشرة والنصف لنذهب الى حيث هو.

وفي العاشرة والربع مر عبد الهادي محفوظ وتوجهنا سويا الى حيث كان سماحة الامام موسى الصدر.

كان المكان يعج بالناس يعج بالمواطنين والمواطنات وكان من الواضح ان المواطنين والمواطنات الذين كانوا قد تجمعوا عند مكتب سماحة الامام كانوا يريدون منه ان يستمع لطلباتهم ولشكواهم او لحل ازمة من ازماتهم فقد كان خدوما لشعبه خدزما للوطن خدوما للمواطنين كان يعتبر ان خدمة المواطن هي عنوان من عناوين الجهاد الذي يجب ان لا يقصر انسان شريف في القيام به لانه جهاد في سبيل الله.

دخلنا الى المكتب واستقبلنا الشيخ محمد يعقوب هاشا باشا مرحبا وقادنا فورا نحو غرفة يجلس فيها سماحة الامام دخلنا الى الغرفة وعانقته وعانقني ثم اجلسني الى جانبه فجلست منتظرا منه ان يبادر بالكلام.

رفع الامام وجهه وراح ينظر الي بعينين ثاقبتين وفي هذه اللحظات انتبهت الى ان كل من كان في الغرفة انسحب منها وبقيت انا فقط في حضرة سماحة الامام عندها لمست ان سماحة الامام ارتاح قليلا ثم اسند ظهره للمقعد وقال انت رجل شريف انا اتابع ما تكتبه منذ فترة ووجدت في كلامك تطابقا من حيث الجوهر مع ما نطرحه نحن وما ننادي من اجله ابتسم ثم رفع عمامته قليلا للوراء وقال انت ضد الظلم وضد الظالمين وضد المستعمر والمستعمرين وضد كل من يسلبالشعب حقوقه وضد كل من يضطهد الشعب ويرفض مطالبه انت تقاتل من اجل تحرير ارض استعمرها الاستعمار انت تقاتل من اجل رفع الظلم والاستعمار عن أماكن مقدسة نقدسها جميعا وعلى رأسها الأقصى.

فاجأني بهذا الكلام اذ لم اسمع منه من قبل اي حديث عن الأقصى لكنه الآن يتحدث عن الأقصى كهدف للمسلمين جميعا وللعرب اجمعين لتحريره مما هو فيه من اسر واحتلال ثم تابع سماحة الامام اكثر من ذلك أرى في كلامك ترابط بين العمل الوطني والعمل القومي وهذا ما نراه نحن أيضا اذ لا نرى نضالنا من اجل الفقراء والمظلومين محصور بلبنان فالفقراء والمظلومين والمحرومين موجودون في كل مكان واذا نظرنا لبلادنا العربية نجد ان اغلبية شعوبنا هي مظلومة ومحرومة وبينما تتمتع فئة قليلة بخيرات البلاد او ما تبقى منها بعد نهبها من المستعمر والمحتل.

اطربني هذا الكلام ولا انكر انه فاجأني بالمدى الذي ذهب اليه.

فانا من الذين قرأو كل ما نشر على لسانه واستمع الى معظم خطبه واعرف ان جوهرها يلتقي تماما مع ما ننادي نحن له من نصرة للمظلوم ورفع الظلم عن المظلومين وان لا يكون هنالك ملايين يتضورون جوعا بينما قلة تستغلهم وتستغل ثروات البلاد وتفتحها علىمصراعيها لنهب الأجنبي بينما هم ياخذون الفتات وشعبهم يتضور جوعا وتابع سماحة الامام كلامه باطراء لنا اكثر ولا اريد هنا ان ازيد حول هذه النقطة لكنه تحدث طويلا حول أهمية الكلمة وحول أهمية الاعلام وحول كون الاعلام سلاح أساسي في مرحلة البناء الأولى من اجل التعبئة والحشد وجذب الشباب الى حركة تغير المجتمع وتغير مقاييسه ووتدفع به نحو التغيير للافضل.

انتهت مقابلتنا الأولى وخرجت فرحا وشاكرا لهذه الفرصة التاريخية وكنت خلال اللقاء أحاول وهو يتحدث ان ادقق في قسمات وجهه وفي نظراته وفي قامته المديدة كان بالفعل قامة طويلة للعمل الوطني للتضحية والجهاد كانت كلماته تليق بذلك المنظر المهيب الذي يشكله هو بطوله الفارع ونظرته الثاقبة وحسن كلامه وحسن رؤيته للمستقبل كان يرى النصر في نهاية النفق كان يرى ذلك الضوء الذي سينتصر عنده الفقراء على الذين ينهبون ثروات البلاد ويتركون خزائنها مفتوحة لنهب الأجنبي ، خرجت من مكتبه وكانني ما زلت امامه مسحور بكلامه مفاجأ بالمدى الذي ذهب اليه في الحديث وطرب على ما سمعت من ثناء على ما تنشره الهدف.

وتتابعت اللقاءات بين حين وآخر وكان سماحة الامام قد رتب وسيلة مباشرة للاتصال حتى تكون الصلة مباشرة بيني وبينه عندما يريدني او عندما اريد من سماحته شيء ولقد رتبت لسماحة الامام مجموعة من اللقاءات المفيدة والثمينه من حيث إعطائه الفرصة لشرح أفكاره واهداف الحركة لمن لم يسمع من قبل باساس الحركة وبافكارها وكان بهذا قد قدم خدمات جليلة للحركة باسرها حتى تفهم الناس سواء إقليميا او دوليا المعنى والمقصد من وراء انشاء هذه الحركة الجهادية وفي آخر لقاء لي مع سماحة الامام قبل ترتيب ذلك اللقاء التاريخي مع الدكتور جورج حبش تطرقنا الى وسائل النضال وقلت له اننا بعد تجربة طويلة ثبت لدينا ان هذا العدو لا يواجه الا بالقوة مهما كانت مطالبنا حقة ومهما كان خطابنا مبني على حق وعقل وعقلانية فان أحدا لن يستمع لنا ان كنا ضعفاء فقوة المحرومين هي التي تأتي بحق المحرومين اليهم اما اذا بقي المحرومون ضعفاء فان الكل سيستضعفهم ولن يحصلوا على حقوقهم وبكلمة أخرى الحق يؤخذ ولا يعطى في هذه الدنيا التي تتحكم فيها قوى استعمارية استبدادية عنصرية تكره الانسان وتستعبده من اجل زيادة أرباحها وثرواتها ولأول مرة لمست من سماحة الامام موافقة كاملة على فكرة التسلح بالقوة لتحقيق اهداف المحرومين وانتزاع حقوقهم وهنا خطرت على بالي تلك الفكرة فكرة ان تتحول هذه العلاقة الحميمة الصادقة بيني وبين سماحة الامام الى علاقة بين الحركة والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اذ ان هذه العلاقة ان توسعت الى هذا المدى سوف يكون مردودها اكثر بكثير من فهم الواحد للآخر او استعراض أفكار الواحد على الآخر سيكون مردودها تنمية قوى متآلفة متحابة متكافلة متضامنة في قتالها ضد المستبد والظالم ضد الظلم والظالمين وطرحت الفكرة على سماحة الامام في نهاية ذلك الاجتماع قلت له يا سماحة الامام لا بد من ترجمة هذا الفهم المشترك الى وقائع تدرب وتسلح الأعضاء حتى يتمكنوا من انتزاع حقوقهم في نهاية الامر فكل الحشد الذي يبنى الآن سيتعرض لهجمات تستهدف قتله في المهد ولا بد له من قدرة على الدفاع عن نفسه وشق الطريق نحو انتزاع الحق لا طريق لانتزاع الحق سوى القوة ، هز سماحة الامام رأسه موافقا وقال أتمنى ذلك ولا شك ان هذا اللقاء سوف يأتي بنتائج كلها خير للمؤمنين بحق الشعوب وللمؤمنين بضرورة هزيمة الظالمين وتحرير الأوطان وخرجت من ذلك اللقاء متحمسا لترتيب ما اقترحته انا على سماحة الامام والذي رحب به سماحة الامام ترحيبا كبيرا .

خرجت من ذلك الاجتماع وانا افكر هل اطرح هذا الموضوع على المكتب السياسي بشكل جماعي وانا اعلم ان هنالك من سيقف معارضا لأغراض في نفسه وليس خدمة للمصلحة العامة ام اطرح الموضوع على الحكيم بشكل ثنائي وفيما تسير السيارة من مكتب سماحة الامام نحو مخيم شاتيلا قررت ان افاتح الدكتور جورج حبش ثنائيا بالامر حتى أرى رأيه وطريقته في التصرف تجاه ما وعدت بتنفيذه ، في شاتيلا دخلت مكتب الحكيم وكان يجلس وحده يقرأ تقريرا من التقارير فسلمت عليه وقلت له يا حكيم عندي كلمتين اريد ان اقولهما لك وعفوا لمقاطعتك ابتسم الحكيم وقال اهلا وسهلا يا بسام هات ما لديك قل .

قلت له كنت الآن في زيارة لسماحة الامام موسى الصدر وتحدثنا طويلا وتم الاتفاق على ان ارتب لقاء بينك وبينه حتى تستكشفان مدى المدى الواسع المفتوح بين تحالف الجبهة الشعبية وحركة المحرومين والتعاون من اجل الكفاح ضد الظالمين والظلم وسكت ورحت انظر اليه كانت الدهشة مرسومة على وجهه لكنها سرعان ما تلاشت لتحل مكانها ابتسامة عريضة وقال..

انت صاحب أفكار عظيمة وهذا الامر كان يدور في ذهني مرات عديدة ولكن لانك بادرت ووعدت بترتيب اللقاء فارجو ان تبلغ انني أوافق وان تقترح عليه موعدين او ثلاث ليختار منهما موعدا من المواعيد وحيثما يريداي ينتقي المكان الذي يريده حتى يتم اللقاء.

وقفت اهم بالمغادرة ليقاطعني ويوقفني صوت الحكيم قائلا..

يا بسام هذا اقتراح عظيم لقد اتيت بعمل جيد جدا يجب ان نوحد القوى المناهضة للظلم والظالمين هل تعرف كيف يفكر بموضوع الكفاح المسلح!

التفت للحكيم وقلت نعم انه تواق لتحويل الحركة الى حركة مسلحة لانه يتفق مع راينا بان القوة هي الطريق الوحيد لانتزاع الحق فابتسم ابتسامة عريضة الحكيم وهز رأسه قائلا تمام تمام .

وخرجت من المكتب مكتب الحكيم فرحا لنجاح المهمة التي كنت اعتبرها خطوة ضرورية واساسية في جمع القوى وتجميعها ضد عدو ماكر ومتحالف مع قوى محلية يستهدف ذبح المقاومة وذبح كل من ينادي بمهاجمة الظالمين وتدمير الظلم وتحقيق الحق للشعوب .

خرجت من شاتيلا افكر أيضا هل ابلغ سماحة الامام فورا ام انتظر للغد ثم قررت بيني وبين نفسي ان ابلغه فورا وذلك لاشعاره انني مهتم جدا ومتابع جدا لهذا الهدف النبيل هذا من ناحية وليشعر سماحة الامام بمدى الاهتمام الذي يعطيه جورج حبش لمثل هذا اللقاء والمدى الذي يتصور الحكيم اننا سنصل اليه من خلال تنمية هذه العلاقة.

وسارعت بالتوجه الى القناة التي كان سماحة الامام كان قد رتبها لتكون مباشرة بيني وبينه وابلغته بالنتيجة وطلبت منه تحديد الوقت المناسب ليختار موعدا من بين ثلاثة مواعيد أعطيت من خلال ذلك الاتصال المباشر.

اختار سماحة الامام موعدا ثالثا وكان في ساعة مسائية وليس في النهار وذلك حسب مواعيده وارتباطاته فعادة نهار سماحة الامام ملىء بلقاءات مع وفود شعبية وكان المساء هو الأفضل له وتم الاتفاق على ان اذهب انا لارافقه الى حيث الدكتور جورج حبش لانه هو اختار ان يكون اللقاء في مكتب الدكتور جورج حبش وليس في مكتبه.

كان ذلك نوعا من التواضع الكبير الذي أراد سماحة الامام ان يشعر من وراءه الدكتور جورج حبش انه رجل متواضع وانه يقدر قيمة الكفاح المسلح الفلسطيني وانه يقدر قيمة جورج حبش تحديدا اذ قرر ان يأتي هو الى مكتب جورج حبش وليس العكس.

وأبلغت الحكيم بموافقته وبالموعد وانتظرنا حتى نرتب كل الأمور العملية لذلك اللقاء التاريخي.

 

(2)

في أواخر شهر أكتوبر كان جو بيروت غائبا ملبدا بالهواء البارد وماطرا .

وعندما تمطر السماء فوق بيروت لا تفرق بين احياء راقية وشوارع معبدة وبين احياء فقيرة الزواريب فيها ترابية وغير معبدة لا يراعي المطر كون سكان من سكان بيروت يعيشون في اكواخ من الزينكو او الخشب وبين أناس يعيشون في بنايات فارهة او فلل غنية تحميهم من الامطار ومن البرد .

المطر في بيروت هو مطر للجميع والمطر في بيروت هو بلل للجميع لكن آثاره ليست متساوية على الجميع فكلما زاد المطر ازداد الطين في زواريب الفقراء ودلفت تلك الاكواخ من خلال شقوقها دلفت ماء على من يقطن فيها يبلل المطر ما ينام عليه الفقراء من لحف او فراش فينام الفقير على فراش مبلول وعلى ارض طينية لكنه يجد دفئا بينه وبين فكره دفئا بينه وبين أحلامه بالحرية والكرامة والعزة بينما هؤلاء الذين يقطنون في قصور قد لا يشعرون بالدفء رغم ان قصورهم لا تسمح للماء بالسيلان ولا ينبل فراشهم ولا لحافهم ولا ينامون على طين ولا يعيشون في زاروب امتلاء بحفر الماء وبقايا من زبالة جرفها الماء وطين .

هؤلاء يعيشون بدون دفء يبردون يخافون من المستقبل لان المستقبل ليس لهم لان المستقبل ليس لمن سرق مال الفقير واليتيم ليبني قصرا ويفرشه بالطنفس والريش والحرير انه يبرد بينما يشعر الفقير بدفء لان قلبه يعتمره الايمان . والايمان دفء .

في ذلك اليوم الماطر ازداد المطر لمعانا مع أضواء السيارات الذاهبة والراجعة وركبنا نحن سيارة تقودنا الى مكتب جورج حبش الى احياء الفقراء الى مخيم شاتيلا الذي التصق نتيجة الاكتظاظ بمخيم صبرا فاصبح مخيم شاتيلا وصبرا او مخيم صبرا وشاتيلا والاسمان هما اسمين لعائلتين يملكان الأرض التي بيع جزء منها لوكالة الغوث لتقيم فيه بعض الاكواخ ومدرسة لللاجئين الفلسطينيين واشترى البعض الآخر منظمة التحرير لتبني فيه بعض المقرات لتخدم شعبها لكن الزواريب بقيت زواريب والطين بقي طين والمجاري بقيت مفتوحة للعين وللهواء والاكواخ اكتظت لكنها لم تتسع لم تتوسع فنفس المكان ونفس المساحة كان عليها ان تحتضن من يلد ومن يولد ومن يلد من يولد ولذلك اكتظت فاصبح المتر المربع مضطر لان يتحمل اربع الى خمسة انفار بينهم قد يكون طفلان او ثلاثة لكن الكوخ بقي هو الكوخ والطين بقي هو الطين والدفء في القلب بقي مرتبطا بحلم العودة الى فلسطين ةالاصرار على العودة والإصرار على ان نصبح أقوياء لان القوة طريق لانتزاع الحق من غاصبيه ، كنت قد وصلت الى مكتب سماحة الامام وانتظرنا الى ان جهز وغادرنا بسيارتين كانت السيارة المخصصة لي تعود للمكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تقود الطريق امام سيارة سماحة الامام الذي شرفني بالجلوس الى جانبه ولقد سرت خلفه فيما هو يتحرك نحو السيارة سبحان الله له قامة مديدة تليق بالوطن قامته قامة الوطن قامته قامة عزة الوطن قامته هي قامة كبرياء الوطن وكان يرفع رأسه وعلى رأسه عمامته فيبدو ماردا في ذلك الوقت الذي ضاع فيه الضوء في خيوط النهار ولم يتمكن الظلام من محو خطوط النهار كليا بين بين بين الليل والنهار غادرت بنا سيارة الامام وراء سيارتي متوجهين الى مخيم شاتيلا ولقد اخذنا الطريق الذي يمكن ان ندخل منه الىمخيم شاتيلا بالقرب من قصر صبري حمادة الذي لم يكتمل بناءه وكان قد بدأ ببنائه عند زاوية المخيم عندما تأخذ طريق الحرش باتجاه مخيم شاتيلا ودخلنا في ذلك الشارع لانه شارع وليس زاروب ولم يكن معبدا بل كان مليئا ببحيرات الماء المتجمع من الشتاء وضاق الشارع ليتحول الى زاروب عندما دخلنا المخيم وأصبحت السيارة كانها تسبح في بحر من الوحل والماء .

كان سماحة الامام انيقا يلبس ذلك الثوب الأسود الذي تهدل على قامته بلياقة واناقة لا يطالها شائبة .

رحت افكر كيف سينزل سماحة الامام ويغطس في تلك الحفر الطينية حتى نقطع الشارع الى مكتب الحكيم بدى القلق على وجهي لكنني لا أرى على وجهه سوى الابتسامة لا بل راح وكانه يدخل الى بيته وكانه يدخل الى المكان الذي يحبه يدخل الى حيث يتدفأ الفقراء ببردهم .

الى حيث يصفق الفقراء كي تدفأ اكفهم حيث يتدفأ الفقراء باحلام العودة الى فلسطين ويجلسون أطفالا قرب أطفال ترعاهم ام تقف خلفهم لتعظي واحدا واحدا منهم نصف حبة كستناء شوتها على نار حطب وضع في كانون على شرفة غير موجودة على قطعة من ارض مسها المطر لكن لم يحولها الى طين .

وصلنا امام مكتب الحكيم وكان مضاء ولم يكن هنالك مسلحون يحرسون سوى حارس واحد يجلس على كرسي اما ذلك المكتب سارع رفاقي الذين كانوا يركبون في سيارتي نحو سيارة سماحة الامام ليفتحوا الباب هنا قلت لسماحة الامام مولانا الأرض طين والمطر حولها الى بلاك صغيرة حذار يجب ان ترفع ثوبك حتى لا يبلله الطين وكانه سمع ولا يريد ان ينصت …

هبط من السيارة ولم يرفع ثوبه سار بكل ثقة وكبرياء عبر تلك البحيرات الصغيرة ليقطع الزاروب نحو مدخل مكتب الحكيم واسرعت انا حتى اسبقه عند المدخل لاشق له الطريق نحو مكتب الحكيم فقد كان ذلك المبنى مليء بغرف يستخدمها رفاق ومقاتلون لاشياء واغراض كثيرة زكان للحكيم غرفة من ضمن الغرف اسرعت وصرخت في رفاقي ان انتبهوا طلبت منهم ان ينظروا من هو الذي يدخل مكتبنا زائرا ليقدموا له دون أوامر كل الاحترام اللازم لان هيبته كانت تفرض الاحترام فاصطف الجميع داخل غرفتي او خارجها وكانهم يقفون وقفة استعداد امام قائد عسكري حياهم سماحة الامام وهز راسه مبتسما عندها ونتيجة للضجة التي أثيرت فتحت باب المكتب فسارع الحكيم نحو الباب هاش باش مرحبا وعاتبني لانني لم ابلغه حتى يخرج له للمدخل فقال له سماحة الامام وهو يبتسم انا السبب انا منعته انا دخلت قبله لانني اشعر انني في بيتي .

الله ..

الله ..

كم شاهدت على وجوه رفاقي تلك الراحة النفسية عندما سمعوا سماحة الامام انني اشعر انني في بيتي لقد كسر بهذا القول كل الحيطان وكل الثلوج ان كانت موجودة وان كانت مصطنعة حتى لقد هدها بكلمة واحدة واقام مكانها شبكة من الثقة لا حدود لها والمحبة والشعور انه احد افراد العائلة عانقه الحكيم ودخلا سويا الى تلك الغرفة وانا اتبعهما كم كان المنظر جميلا سماحة الامام طويل القامة والحكيم مربعاني لكن منظرهما وهم يحيطون بعضهما بايديهما كان منظر التلاحم الثوري وكأن الاثنين ذاهبان الى معركة لانتزاع الحرية .

لم يدخل احد تلك الغرفة بعدما دخلنا وكان هنالك مقعد طويل ومقعد صغير فجلس الاثنان على المقعد الطويل وجلست انا على المقعد المنفرد اراقب واسمع كان المشهد مثيرا كان لقاء أولا ولقاء بين قامتين وطنيتين قوميتين لقاء بين قائدين يتنافسان من اجل التلاحم للقضاء على العدو للقضاء على الظالمين والظلم .جاءت الحركة الأولى من سماحة الامام موسى الصدر فقد أزال بيده العمامة ووضعها جانبا وكانما يقول للحكيم ها انا كلي امامك لنبدا بالحديث ابتسم الحكيم وضحك وقال اهلا وسهلا بك انت فعلا في بيتك ومرحب بك ولقد سمعنا عنك الكثير وقرأنا عنك الكثير والآن نشاهدك عندنا ونحب ان نسمع منك اكثر مما قرانا عنك او سمعنا عنك .

بدأ سماحة الامام بالتنكيت قال للحكيم :

هل تريد ان نبدأ بالاشاعات ام بالوقائع وضحك وضحك معه الحكيم وعلق الحكيم بالقول لقد وصلتني بعض الاشاعات التي تقال عنك وعني … لم يتم كلامه لان سماحة الامام قال له ووصلتني انا أيضا وضحك الاثنان …

دعا الحكيم سماحة الامام الى البدء بالحديث قائلا له تفضل يا سماحة الامام نحن متشوقون لسماع كلامك فأجاب سماحة الامام :

“لم آت هنا لاتحدث جئت لاتحاور ولاتفق معك فلقد قرأت انا الكثير عنك وعن مواقفك واجد ان جوهر ولب الأفكار والموقف متطابقة فكلانا عدو للظلم والظالمين وكلانا عدو للمحتل والمحتلين وكلانا يريد ان يحرر الأرض والانسان وكلانا وطنيان وكلانا قوميان وكلانا نؤمن ان الحركة الثورية يجب ان تكون مسلحة وان تقاتل العدو الذي لا يفهم الا لغة القوة “.

نظر الحكيم باعجاب الى سماحة الامام وقال له ” لقد افحمتني لا داعي ان اتحدث لقد قلت ما كان بذهني قوله فنحن فعلا متفقان على هذا “.

وبدأ سماحة الامام موسى الصدر بشرح الظروف التي أدت الى تكوين الحركة والمبادئ التي قامت على أساسها وهيكل البرنامج الذي وضع من اجل انشائها وتطويرها وتوسيعها والبرامج العملية لكفاحها وتدرج هذا الكفاح ولفت انتباهي انا في كلام سماحة الامام موسى الصدر انه تحدث مطولا عن فلسطين وعلاقة فلسطين بجنوب لبنان وكان مفهوما ومعلوما انه عندما يتحدث عن جنوب لبنان كان يتحدث عن الشيعة وكان يتحدث عن تجمع حركة المحرومين واعضائه ومنتسبيه وكان يتحدث في الوقت ذاته كان يتحدث في الوقت ذاته عن الطائفية والتفرقة الطائفية وتحدث عن وحدة العرب وتحدث عن تسليح العرب وتحدث عن مقاومة العرب المقاومة القومية وقال ان تحرير فلسطين قضية قومية في الوقت ذاته وهي قضية وطنية وان واجب الجميع التسلح والقتال لتحرير فلسطين فقضية فلسطين ليست قضية الشعب الفلسطيني وحده لانهم زرعوا في فلسطين قاعدة للتحكم بكل الامة في كل الأقطار وزودوها بالقوة ما يلزم لتتحكم بالمنطقة وتقضي على الثورات والحركات الثورية لذلك لا يمكن ان نواجهها الا بحركة رأسها في فلسطين زجسمها في الوطن العربي كله ونحن في لبنان الاقربون ونحن أولى بالمعروف كان سماحة الامام هو المتحد الأساسي والرئيسي وكان الحكيم بكل ادب وتهذيب يصغي لسماحة الامام وكانه يريد منه ان يؤكد له صحة ما يشعر الحكيم به تجاهه صدق القول صدق التوجه صدق الاستعداد صدق الاستنفار صدق التوجه للجهاد حتى الاستشهاد وكان هذا ماتم ثم تحدث الحكيم عن احترام كامل لمبادرة الامام موسى الصدر لانشاء الحركة وعن توافق كامل فيما يتعلق بجوهرها وبفكرها وبهدفها وعن اسناد كامل لتقويتها لتكون لها اذرع مسلحة قوية تعطيها من القوة ما يلزم لانتزاع الحرية رغم انف الأعداء سواء كانوا من العملاء المحليين او من الأعداء الخارجيين وشرح له طبيعة عمل الجبهة الشعبية وفروع عملها وركز الحكيم في حديثه على الداخل وضرورة بناء الداخل وخلايا سرية في الداخل وهذا ما نحن في الجبهة الشعبية بصدد التركيز عليه وان القوات المسلحة في الخارج ما هي الا للدفاع عن شعبنا في وجه الغارات والغزوات الصهيونية وان وضعها هنا هو وضع الحليف والاخ والصديق لقوى وطنية لبنانية ومنها حركة المحرومين .

واكد الحكيم اكثر من مرة على انه ينظر لهذا التحالف نظرة استراتيجية وليس نظرة تكتيكية وقال ان الجبهة الشعبية لا تملك إمكانات كبيرة لكنها على استعداد كامل ..

” لوضع كل إمكاناتها تحت تصرف سماحة الامام وحركة المحرومين للتدريب والتسليح والتخطيط والقتال .”وهنا شاهدت على وجه سماحة الامام ارتياحا وشخص نظره للمستقبل للامام وكأنه يرى ما سيجري سيرى ما سيأتي كان سعيدا بحديث لحكيم .

ثم تناول الحديث بين الاثنين ضرورة ترتيب لقاءات دورية بينهما وضرورة ترتيب لقاءات على مستوى القيادتين وضرورة ترتيب لقاءات على المستوى الميداني ثم بدأ الحديث بين الاثنين فيما يتعلق ببناء القوة العسكرية والمساعدة التي يمكن ان تقدمها الجبهة الشعبية لحركة المحرومين حركة امل من هذه الزاوية أي زاوية التدريب والتسليح والتخطيط والقتال المشترك والدفاع المشترك ضد العدو ، شعرت انا هنا اننا ندخل بابا جديدا نحو مرحلة جديدة من التاريخ فمثل هذا التعاون كان يعني بكل وضوح زيادة قوة محور مقاوم للعدو الصهيوني وتقوية محور يقف ضد قوى اليمين العميلة للعدو الصهيوني وكذلك تحالف بين قوى لديها هدف سام كبير هو تحرير القدس والمقدسات وشاهدت الحكيم يقف ويتوجه الى مكتبه لياتي بورقة وقلم ونظر الى سماحة الامام موسى الصدر وسأله نحن على استعداد ان نبدأ فورا بتدريب مجموعاتكم كم تعتقد سماحتكم عدد الذين سيحضرون الدورة الأولى للتدريب الدورة الأولى للتدريب عندنا هي ثلاثة اشهر يتم تدريبهم على الأمور الجسدية والأسلحة الخفيفة والرشاشة الخفيفة ثم على فنون حرب العصابات وتجاوز العقبات وحماية المقاتل لنفسه واللياقة البدنية في هذه الفترة أساس من اجل ان يتحول المتدرب الى مقاتل جيد كم بتقديرك يمكن للدورة الأولى ان ينضم اليها عدد من اخوانكم وابنائكم .

أجاب سماحة الامام برقم معين … فاجابه الحكيم هل من الممكن ان يكونوا جاهزين الأسبوع القادم فاجابه سماحة الامام نعم فقال له اذن علينا ان نرتب لهذا العدد من المتدربين التجمع في نقطة ما كي يؤخذوا الى معسكر في نقطة ما ليبدأو التدريب فورا مع رفاقنا .

كان الامر سريعا وسهلا ولم يكن هنالك عقبات كان التجاوب رائعا صاقا خارجا من قلوب دافئة يعتمرها الايمان الايمان الصادق بحتمية انتصار الشعوب بحتمية انتصار الفقراء على من يمتص دمائهم ويسرق قوتهم وقوت أطفالهم .

وطلب مني الحكيم ان اتابع مع الجهات المعنية هذا الامر وان أوصل من طرف جماعة الامام من يدير العملية من طرفه الى الجهات التي تدير العملية عندنا وتم الامر على هذا الأساس وأشار الحكيم الى انه بعد التجربة الأولى من المفيد ان نجلس لنناقش ونستخرج دروس التجربة الأولى لنحدد طبيعة الدورة القادمة وعدد المتدربين وابتسم الحكيم وقال وطبعا عدد الأسلحة اللازمة وضحك الاثنان وتعانقا ، وخرجنا من تلك الغرفة والسرور باق واصطف رفاقنا يقفون هيبة واحتراما وشاهدنا مئات الأطفال قد التموا في ذلك الزاروب تحت المطر ينتظرون سماحة الامام ان يخرج ليروه بام عينهم وكم كانت النظرة على وجهه تنم عن سعادة لا مثيل لها عندما رأى الأطفال واشاح بيده يسلم عليهم عن بعد كان فرحا وكانه يرى في وجود الأطفال مباركة لذلك الاتفاق التاريخي كان فعلا قامة وطنية وقومية ومقاومة

راسها مرفوع …

صدرها منشرح …

قلبها دافىء …

وارادتها لا تلين .

 

زر الذهاب إلى الأعلى