تحقيقات

الرئيس سنغور: الشِعر أَعلى من الرئاسة بقلم الشاعر هنري زغيب

المصدر: بيروت- النهار العربي

بين 7 شباط/فبراير الماضي و19 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، معرضٌ كبيرٌ استثنائيٌّ بعنوان “سنغور والفنون” في “متحف براْنلي  جاك شيراك”  (الدائرة السابعة – باريس)، وللمعرض عنوانٌ جانبيٌّ: “إِعادة اختراع الحضارة الشمولية”. وهو يتضمَّن سيرة الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور (1909-2001) عبر مسيرته الثقافية والسياسية غداة تحقيقِه استقلالَ بلاده السنغال (20 آب/أُغسْطس 1960).  وساهمت “غاليري مارك لادريتْ دولاشاريــير” في دعْم المعرض.  

فماذا عن هذا الرجل التاريخي شاعرًا ورئيسًا؟

معرض مكرَّس لشخصية مكرَّسة

كثيرون ناقشوا آثاره وأَعماله وإِنجازاته، خصوصًا مؤَرِّخو فترة ما بعد استقلال السنغال. منهم من أَقرَّها ومنهم من لم يَرَها بتلك الأَهمية (!؟). لكنَّ سنغور هو اليوم أَكثر الأَعلام الخالدين شهرةً واطِّلابًا بين المثقفين الأَفريقيين في العالَم.

صحيح أَن المعرض الحالي في باريس يتناول سنغور شخصيةً مكرَّسة، لكنه يستعيد مواقفه وأَفكاره وآراءَه قبْل نصف قرن في بلاده التي ظلَّ يقاوم ويناضل حتى حقَّق لها استقلالها. فهو خلَّد دور أَفريقيا في التاريخ المعاصر، ودافع عن فكرة “التبادل الحضاري” عبر حوار مع سائر بلدان العالَم الحضارية من أَجل بلوغ الحضارة الشمولية.

يلقي خطاب القَسَم سنة 1963

ريادة حوار الحضارات

على باب المتحف، كاتالوغ مُتقَن عن المعرض، يعطي الداخلين إِليه لُـمَحًا مُسْبَقة عن سياسة سنغور الثقافية، وخصوصًا عن فكر سنغور وما نتج عنه من نصوص عميقة وحوارات صحافية وصورٍ غير منشورة وصوَر لوحات فنية كان يهتم لها سنغور خلال فترة حُكْمه رئيسَ السنغال (بين 1960 و1980) ويعزِّز حضورَها في بلاده لتَثْقيف شعبه. من هنا أَهمية المعرض اليوم، بعد 22 سنة على غياب الشاعر الرئيس، رائد الزنوجية تيارًا سياسيًّا وأَدبيًّا أَطْلقه مع الشاعر الفرنسي الأَفريقي إِيميه سيزير (1913-2008) وزوجته سوزان (1915-1966) والشاعر الفرنسي ليون داماس (1912-1978) والكاتبة جانّ ناردال (1902-1993) وشقيقَتها الصحافية بوليت ناردال (1896-1985)، معلنين فكرة الحضارة الشاملة التي تتبادل عطاءاتها مع سائر الحضارات. وبفكرة التبادُل هذه، إِغناءً تمازُجَ الأَجناس والأَعراق وأَلوانِ البَشَرة الخِلاسية، كان سنغور ورفاقه يرمون إِلى الأَمل بتوحيد التقاليد التراثية وإِغناء “حوار الحضارات”. هكذا، بإِعادة “اختراع” وتشكيل مبدإِ الحضارة الشمولية ونزع تفرُّد الطابع الغربي عنه، كانوا يؤَكِّدون على دور أَفريقيا في كتابة التاريخ المعاصر.

 

السنغال وشمس الاستقلال

هي هذه رسالة المعرض: الإِضاءَة على السياسة الثقافية والدبلوماسية الهادفة غداة استقلال السنغال، وما أَنجزتاه من أَعمال جليلة في حقول الفن التشكيلي والفنون الحية. هكذا فكْرُ سنغور استحثَّ الأَجيال الجديدة بعد الاستقلال ونجح في استقطابها. إِذًا يرمي المعرض أَساسًا إِلى إِبراز الغنى الوفير في العلاقات بين الفن الأَفريقي، خصائصَ وتأْثيراتٍ، وسائر الأَعمال الفنية والثقافية التي تُنْتِجُها الإِنسانية.

كل هذا يعكس رؤْية الشمُولية الحضارية لدى سنغور المتعدِّد المواهب والمسؤُوليات: شاعرًا، لُغَويًّا، وزيرًا مستشارًا للجمهورية الفرنسية، رئيس اتحاد دول مالي، رئيس جمهورية السنغال المستقلة، ثم عضو الأَكاديميا الفرنسية بين الأَربعين الخالدين. ذلك أَنه كان أَبرز الأَفارقة الفرنكوفونيين، والأَقوى صوتًا في نقد الغَرب الأُوروأَميركيّ وَتَسَلُّطِه. وهو ما بدا واضحًا من مقدمة مقاله الطويل في مجلة “الفكر الحر” بعنوان “الزنوجية والحضارة الشمولية” (1977)، جاء فيه: “لا بدَّ من تقوية النضال لبناء حضارة إِنسانية شاملة، لأَن الحضارة الأُوروأَميركية لا تعمل لها ولا حتى تريدها. فما يهمُّها وما تعمل على فرضه بوقائعها، إنما هي حضارتُها الذاتية التي تريد أَن تعمِّمَها على أَنها هي “الحضارة الشاملة” بما فيها من جدلية إِحادية هجومية تريد فرض عالَمٍ جديد، بل نظامِ اقتصاديٍّ عالَميٍّ جديد”.  وبهذا التفكير المركَّب العالي وَوُجهته الثقافية المتعدِّدة الأَبعاد، تكرَّس سنغور رائد الزنوجية وأَفكارها ورسالتها، عبْر فكرة الحضارة الشمولية وإِعادة “اختراعها” دون التركيز على حضارة واحدة بعينها، وعبْر ما ترك سنغور من آثار مطبُوعة وخُطَب منثورة ونظرة شاملة وثقافة عالية وتحرُّكٍ وطنيّ وقيادة سياسية، ولعلَّها جميعها متفرعة من وجهٍ أَساسٍ هو وجهُ سنغور الشاعر.

يوم دخل الأَكاديميا الفرنسية

الشاعر قبل الرئيس

كان دومًا يقول إِن الشاعر فيه يأْتي قبل الرئيس وأَعلى من الرئاسة. وهو في قصائده داعيةٌ إنسانيٌّ في قالب لغوي مغاير لافت قلَّ أَن عرفَتْهُ اللغة الفرنسية بكثافة الصُوَر، والسيطرة على المفردات ببساطة تامة، وإِغناء القصيدة بالثقافة، فتكون قصيدةً مثقَّفة ومثقِّفة على عذوبة في الإِيقاع الأَفريقي المأْخوذ من بيئة شفوية تتردَّد في الأَبيات والمعاني.

ولعلَّ هذا الإِبداع الأَدبي هو الذي هيَّأَ سنغور أن يُنتخب عضوًا في الأَكاديميا الفرنسية. ففي الثاني من حزيران/يونيو 1983 انتُخِب “الشاعر الرئيس” ليوبولد سيدار سنغور عضوًا مع الخالدين في الأَكاديميا الفرنسية للمقعد 16 الذي شغر بغياب المؤَرخ والكاتب أَنطوان دو ليفيميربْوَى (1884-1981)، وأَلقى خطاب قبوله في 29 آذار/مارس 1984 بحضور رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران.

لكنَّ مجد سنغور كان تكرّس قبلذاك بنيله تشريفات كثيرة، أَقلُّها: “مِدالية اللغة الفرنسية”، “الجائزة الدُوَلية الكبرى للشعر من اتحاد الشعراء والفنانين وجمعية اللغة الفرنسية” (1963)، جائزة السلام من جمعية المكتبات الأَلمانية (1968)، جائزة أَكاديميا الفنون والآداب في روما (1969)، جائزة الأُونسكو لجمعية أَصدقاء الكتاب (1979)، جائزة الرئيس السادات لنشاطه الثقافي وأَعماله من أَجل السلام في أَفريقيا (1980)… كما نال الدكتوراه الفخرية من 37 جامعة حول العالم بينها السوربون وستراسبورغ وبوردو وأُوكسفورد وفيينا ومونتريال وفرانكفورت وسواها. كما كان عضوًا مراسلًا لأَكاديميا بافاريا (1961)، وعضوًا شرفًا لأَكاديميا العلوم والفنون في بوردو، وأَكاديميا مالارميه (1976)، وأَكاديميا المغرب الملَكية (1980).

رسالته رئيسًا إِلى الشعب السنغالي

أَبو الاستقلال

جميع هذه المعالم من شخصية سنغور موجودة حاليًّا في هذا المعرض الكبير أبي السنغال المستقل، وأَول رئيس للسنغال بعد استقلالها عن فرنسا، ومُطْلق الديمقراطية والحرية الصحافية في بلاده.

يوم أُعلنَت وفاته في النورماندي عن 95 سنة (20 كانون الأَول/ديسمبر 2001)، رثاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك: “الشِعر خسِرَ سيّدًا، والسنغال خسِرَتْ رجلَ دولة، وأَفريقيا خسِرَتْ رؤيويًّا، وفرنسا خسِرَتْ صديقًا كبيرًا”.

صورته على طابع تذكاري في مولودوفا (جمهورية بين رومانيا وأُوكرانيا)
زر الذهاب إلى الأعلى