بأقلامنا

غصة رحيل فخامة أمي باقية…الآن أتألم أكثر! الإبن// جهاد أيوب

 

ثلاث سنوات على رحيل ست الحبايب فخامة أمي ولا تزال الغصة تقتحمني!
ثلاث سنوات هرولت دهراً بين التعب والصبر، وبين الشوق والهم، وبين تكذيب الحقيقة، وحقيقة الموت!
ثلاث سنوات فيها كل الحرمان من نعمة المشاهدة، وصعوبة متعة البصر، وغياب رائحة تساوي كل العالم، ورحيل دعاء كان هو الرحم الذي أحدث غيابه غصة، ومتعة تأمل أقدام أمي الصغيرة!
باقية تلك الغصة كما حفر وجود أمي في روحي، وفي كياني، وفي عروقي، وما أصعب ذاك الخبر، وما أصعب بقاء الغصة، وما اتعس من تموت أمه!
اذكر في 30 من شهر كانون الأول حيث الكل يستعد للفرح ونحن نغوص في الحرمان، وفي التاسعة إلا ربع ليلاً كان الخبر، سقطت دمعة أكبر من عين، فاح عطر الروح إلى ربها، وسبحت نفس طاهرة في سماء عالية، واحتلتني الغصة التي جمدت كل ضربات القلب، واختزلته بصرخة داخلية مصحوبة بضربة خنجر جامحة إلى صراخ يجتاح الكيان، يترك العنان لدموع شاردة مجنونة قد تكون رحمة من رب الصبر، واليوم اصبحت رحمة الرحيل عقبة للذاكرة وصورها !
أصعب لحظة في حياتي كانت ظهر يوم 31 من ذاك الشهر حيث تسلم السنة القديمة أوراق اعتمادها إلى صفحة جديدة والمطر بغزارة جامحة يقذف دموعه حزناً على رحيل أمي، والرقص على رأس السنة وأنا ارقص من وجع الرحيل، لحظة إدخال جسد أمي إلى غرفة في قصرها حيث سقط قلبي معها، وما أن وضعوا التراب على كل المساحة صرخت روحي باختناق:” لا أصدق…كيف سأترك أمي تحت التراب…استغفر الله، والله أكبر، هذا قدرنا”…أكثر من دقائق وأنا اختنق، ولم اتقبل الحالة إلى أن أصاب قلبي سهماً اوقف جموحي الأعوج، واستوعبت أن التراب آخر مشاهد الحياة !
أذكر، ولماذا أذكر وصورة وقوفي تحت أقدامها في المستشفى لا ترحل عن بصري وهي جسد من دون حراك ومن دون الروح، لحظتها فتحت عينها اليسرى لتراني وتدمع…يهتز المكان، تصرخ الممرضة ” الله أكبر”، والدكتور علاء قانصو يبكي، فهي التاتا التي يعشقها، وهي المقاوِمة المبتسمة المتسامحة، وهي النهر الدائم، وهو طبيبها، وحارسها مع ملائكة الرحمة وملائكة الرحمن، وهي ممددة أخذت أخر جرعة من مشاهدتي وبكت!
بعد تراكم الأيام على الرحيل، وصلت الغصة المخنوقة إلى الدمعة التي يفوح منها كتاب الصبر صارخاً:” الآن أتألم أكثر”…وما أصعب ألم الدمع دون مشاهدة من نحب!
قاسية هذه الدموع لا تعرف الأفول كلما لاح عطر امي، اسم أمي بعد أن تغيرت الأمكنة، ولم يترك لنا غير قبرها حيث قصرها!
ثلاث سنوات أخذت الأمكنة تتلاشى، تغيرت الغرف، وذهبت رائحة روحك تهجر الجدران إلى فضاء السماء حيث بداية النسيان بعد أن تغيب أعمارنا، لم تعد أنفاسك في زوايا البيت، الآن اقتحمها مشروع البقاء، وأجيال جديدة، إنها خبرية إملاء الفراغ في حياة تتغير ما بعد الموت، حتى الزاوية أصبحت مهجورة، كلما نظرت إليها أشعر بعتمة مقفلة، والورود تغيرت ملامحها، وتلك الشجرة تحت أريكتك قُطِعت…الأحياء لا ينتظرون وعود الأموات، ولا يرسمون الصور الجامدة على جدران المكان حيث المشاغبة لجيل مختلف!
تبقى زيارتنا لذاكرة مؤلمة، فيها أوجاع البقاء، وحنين كل الماضي، ورحمة تحية القبر الذي يواسينا كلما زاد الشوق اليك!
مضت لحظات الفراق كالسهم، كذنب أسر، ولولا رحمة الرب لجف العمر كما الدمع الجارف والنادم على أوقات لم نعرف قيمتها إلا بعد الرحيل!
عفوك يا رب، لماذا لا يعود من نحبهم من الموت لدقائق حتى نقبل عطرهم والقدم وكل ما فيهم، لماذا لا تعود أمي من ثوب ذاك الموت حتى أركع تحت القدم…عزمت يا ربي على تقبيل الجبين والصوت والنظرات…
يا الله…
أمي، كم تغير الزمن منذ رحيلك، كل الأمور هوجاء وعوجاء، اسود النهار، غلاء يرسم نور الشمس الباهت! من بعدك لا يوصف ما حدث، ولا نجد غير خشبة الأيام العابرة مع شياطين البشر، فكل ما فينا بعد غيابك لم يعد فينا، نكرتنا الأيام، وازداد الوطن أوجاعاً، والتهينا بفراغ العيش اليومي ببن الرغيف والدواء والبنزين والكهرباء والطاقة، وهذه الأخيرة جاءت معالمها بعد موتك، وما أصعب البقاء من دونك يا أمي!
لم نعد نثق بالوقت، ولا خلاص بما نحن فيه وعليه، وأبصارنا حزينة دون النظر، ورأسنا طأطأ ووقع أرضاً كأنه يبحث عنك بين صبر التراب وجفاف الماء، وأنت يا أمي ماء وجودنا!
أمي، وجيهة حوماني إم رشيد سيدة المكان، والكلام، والذوق، والصنع، كنت قمح الصبر، وسنابل المحبة، وذهب الحب الذي تمتلكينه، وتوزعينه على الجميع، وتغسليننا من دنس التصرفات الولادية!
يا من غسل هفواتنا من يروينا ويعفوا عنا غيرك، لقد انكسر الدعاء من بعدك، ومن بعدك يا أمي تراكمت الهموم، وكيف لنا أن نغرف بعد موتك من ثوب الاطمئنان وانت كنفنا وكفالتنا وكفننا لحركة أيامنا وأوجاعنا وهمومنا، فعصمتك كانت المانعة من الوقوع في الذنوب والمعصية والمصائب!
أمي التي تشفع خطايانا، والتي تعفو حماقاتنا، وتبتسم، وتقدم الحنان بأكواب الدعاء والطهر كيف سنجد كل هذا بعد موتها؟!
ما اغبانا يوم كانت أمي تتحدث بنظراتها، وما أرحم نظراتها، ورقة الدعاء منها وفيها…وكم نقوم بالدعاء ونحن نحتاج إلى دعاء أمي، ونحن الندم، والندم نحن، ولكن فات أوان القبول!
تغيرت الدنيا من بعدك يا أمي، والخيبة احتلت مفارق كل خطواتنا، والصمت احتل أبصارنا، وأخذنا نبحث عن رغيف الصبر والحياة في كل الاوقات، كان سهل المنال في حياتك، وزاد من صعوبة الحضور في غيابك…رحماك يا رب يا رحمن فخسارة الأم أكبر الخسائر، وأصعب الغياب، وتشتت الوقت الجامع الذي كان!
ذكراك يا أمي رفيق كل لمحة في ما تبقى لنا من حياة، نعم بعد رحيل الأم لم تعد الحياة كما الحياة، إنها مجرد تسارع الأيام بهمومها ومصائبها، حتى الفرح فيها يعبر بسرعة لا توصف، صحيح نجدك هنا وهناك، أمامنا ومع خرير النهر ومع حفيف الأشجار، نفرح بأنك بعد موتك معنا، ولكن أوجاع الفراق دامية صارخة صافعة وثابتة تنتظر انكسار جليد الرحيل!
كل الأحبة رحلوا بعد رحيلك يا أمي، الغالي خالو أنيس سارع إليك…كان سندك في الدنيا، وصعد إليك في الجنة، وهذه زوجة عمي التي ادمنتي حبها زهراء غدار قررت بعد ثوب المرض أن تكون معك!
كل من نتذكرك فيهم غابت شمسهم من بعدك يا أمي، وفي برهة من سحر الوقت القصير اختفت الملامح يا أمي، وكبرنا بسرعة يا امي، وشعرنا بالشيخوخة من داخلنا!
كل من نجدك في سمراتهم وسوالفهم ومفرداتهم تراكمت عليهم الأمراض، وينتظرون دورهم في الرحيل إليك يا أمي!
لقد زارنا شبح الشيخوخة حتى أصبحنا نوزع الكبر من بعدك يا أمي…إن أصعب مصائب الدنيا موت الأم، فكيف إذا كانت أمي هي التي ماتت؟!
اشك بموتك وانت معي في كل الأوقات، التفت لأجدك، وأتحدث فأسمعك، وأنام لتظهرين في أحلامي، تعرفين كل ما يصيبنا في دنيا فانية، تقتحمين زماني كما ملاكي الحارس…أقسم يا أمي أراك بعد موتك أكثر مما كنت في الحياة!
ما سر عبق الأم بعد رحيلها، وما هذا العبث الذي زرعه الرحمن في الأم؟
أمي من كنوز الله على الأرض، ومن نعمه علينا، فخسرنا النعمة بعد الموت، وموت أمي كذبة ما دامت لا تغيب عن ناظري ومسمعي وحركة وجودي وأحلامي!
الشوق بإزدياد يا أمي…أين أنت يا أمي لقد جف حبر ضبى الانتظار يا أمي؟!
من أين لنا صبرك حتى نصبر على غيابك يا أمي، وأنت كنت الصابرة العفيفة الشريفة خلف ماكينة الخياطة تتربعين من أجل المال الحلال؟!
أمي منهل الإيمان، والضحكة الصافية، وأناقة الذوق، واللطف بنا، أمي لا خير بعدك لكنها الحياة…الأم هي مكنونات أسرار الله، وهي الأمينة، وهي رحمة الله على الأرض، وفي الرحيل…ولربما هي كل الخير لنا عند الله!

زر الذهاب إلى الأعلى