Uncategorizedبأقلامنا

أزمة المشروع العربي[*] بقلم الدكتور حسين صفي الدين

 

إن واقع الانتقاضة الفلسطينية أعاد إلى وعينا ثوابت أساسية في ظل الواقع الدولي الراهن في ما هو واقع الهيمنة الأميركية الشاملة وكأن الانهيار الكبير كان ضروريًا لتلمس الوضع المأزوم لحركة التحرر الوطني العربية.

وعليه فالانتفاضة في الأرض المحتلة أكدت من جديد على معطيات ثلاثة:

  • شعب عربي فلسطيني لم تتزعزع إرادته الصلبة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، من أجل التحرير وبناء دولته المستقلة.
  • واقع شعبي عربي متعاطف مع القضية الفلسطينية، مشهرًا العداء للكيان الصهيوني وللولايات المتحدة الأميركية الراعية والداعمة والمتحالفة مع الكيان الصهيوني.
  • أنظمة عربية متوزعة بين ملتحقة بالكامل بالمشروع الأميركي، وهي كانت جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الأميركية الغربية منذ تأسست دولها. وأنظمة عربية رغم رغبتها، أو إرادتها في الممانعة والمواجهة، عاجزة عن الفعل والتأثير نتيجة لواقع الهزيمة الشاملة للمشروع العربي التحرري.

في ظل هذه الوقائع الثلاث يأتي المشروع الأميركي كونه المشروع المهيمن والمسيطر، والمنتصر الوحيد لصياغة سياسته العربية، والشرق أوسطية، على أنقاض مشروعين مهزومين، المشروع القومي العربي التحرري من جهة والمشروع القومي اليهودي الصهيوني من جهة ثانية.

فالمشروع القومي العربي التحرري بمرحلته الجديدة الذي انطلق مترافقًا مع اغتصاب فلسطين وتأسيس الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي والذي ارتكز على شعارات، الثأر وتحرير فلسطين، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وعودة الشعب الفلسطيني إلى أرض وطنه، وعبر عقود عدة من حالة الصراع أو الحروب، وجد هذا المشروع نفسه مهزومًا قابلًا بالتسوية، معترفًا بالكيان الإسرائيلي مجاهرة (في كمب دايفيد) وضمنًا في مدريد تحت مقولة الأرض مقابل السلام، الأرض بما هي الأرض المحتلة في الرابع من حزيران، (من دون أرض فلسطين) والسلام كونه تعايشًا مع الكيان الصهيوني، والقبول به، على جزء كبير من أرض فلسطين كدولة من دول هذه المنطقة، هذا إذا لم يتخذ له إسرائيل شريكًا كاملًا.

وهزيمة المشروع القومي اليهودي (الصهيوني) الذي انطلق نظريًا مع هرتزل وعمليًا مع بن غوريون لإقامة دولة اليهود القومية على أرض الميعاد، من الفرات إلى النيل، وتأسيس الكيان الصهيوني بتبن كامل، ودعم بلا حدود، من القوى الاستعمارية القديمة (بريطانيا، وفرنسا) وعبر حروب لم يشهد العالم مثيلًا لها، حرب اقتلاع شعب من أرضه عبر ذبحه وتهجيره. وقد كرس وجوده عبر الراعي الجديد الولايات المتحدة الأميركية وفرض وقائعه.

وإذا كان هذا المشروع الذي استطاع أن يؤسس لنفسه “كيانًا”.. يجد نفسه في واقع متناقض، إذ يقبل بدولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين ويعترف علانية وضمنًا، بإقامة دولة فلسطينية ويحاول عبر أحد رموزه شارون ألا يعترف بهزيمته عبر مذابح، واجتياحات يومية للأراضي الفلسطينية المحررة وفي عمليات إيادة وذبح للشعب الفلسطيني رافضًا هزيمة مشروعه الاستيطاني والتوسعي القومي.

أمام ذلك هل القول بـ”هزيمة مؤقتة” للمشروع التحريري العربي هو واقعي؟ برأينا أن هذا المشروع عبر قراءة تاريخية للتجربة الناصرية وتطورها – مع عبد الناصر بالتحديد – يؤكد المنهج التجريبي له في تحديد التحالفات، ومواقع الصراع، وإذا كان هذا المشروع حاسمًا، وجازمًا، في تحديد العدو الأساسي المركزي – بالكيان الصهيوني دون أي لَبس، وبأن الحرب ضده وإنهاءه هما هدفان استراتيجيان، فإن موقفه لم يكن حاسمًا وبالمستوى نفسه من تحديد الولايات المتحدة الأميركية (كونها قيادة المعسكر الرأسمالي العالمي – الإمبريالي) كعدو أول إلا مع هزيمة العام 1967 حيث حدث تحول جديد وجذري كبير في رؤية عبد الناصر لطبيعة الصراع والدور الحاسم للولايات المتحدة في وجود إسرائيل وفي تحديد العدو الأول وهو أميركا، كراعٍ وداعم لإسرائيل ويبدو أن الفترة بين الأعوام 1967 الهزيمة و1970 وفاة عبد الناصر لم تكن كافية لأن يثبت هذا المفهوم الجديد في جذور النظام المصري.

فانطلق الاتجاه اليميني بقيادة السادات وتحت شعار “تحييد أميركا” إلى خلط أوراق كثيرة وصولًا إلى الضربة القاسمة لحركة التحرّر الوطني العربية في اتفاقيات كمب دايفيد وإخراج مصر وإلى أجل غير مسمى من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي.

هذا الخلل، من الدفرسوار إلى مفاوضات ك 101 – إلى كمب ديفيد، حمل سورية على أن تعيد النظر بأولوياتها، وطغى مفهوم “حماية الرأس” على المعركة الكبرى، والتحول من شعار الحرب التحررية إلى التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي وإذا كان هذا الشعار واقعيًا (دون أن أجزم) في ظل الحرب الباردة ووجود الاتحاد السوفياتي كقوة موازية يصبح ضربًا من الأوهام بعد الانهيار الكبير الذي أدى إلى انتصار الولايات المتحدة الأميركية مهيمنًا وحيدًا في هذا العالم. وأصبح الخيار الوحيد هو الانخراط بالعملية السلمية بشروطها الأميركية.

ألقى هذا الواقع بظلاله أيضًا على الوضع الفلسطيني، وبدا جليًا بنتائجه على سياسة منظمة التحرير الفلسطينية في توجهاتها منذ العام 1974 الدخول في حوار مع الأميركيين عبر مناورات متعددة ومتشابكة، حيث حاولت أن تميز نفسها في شعارها العلني الرافض لكمب ديفيد، وللاتفاقات الثنائية، وفي التوجهات الفعلية التي أوصلت وعبر ما يقارب العقدين من الزمن، إلى اتفاقيات أوسلو الثنائية مع العدو الإسرائيلي والتي يعيش الشعب الفلسطيني والسلطة في الداخل معاناة لم تنته فصولًا رغم انقضاء ما يقارب العشر سنوات على توقيعها.

في ظل هذه المعطيات لا بد من صياغة بعض الاستنتاجات السريعة.

  • إن المشروع الأميركي في اندفاعته الجديدة “مستقويًا بنتائج أحداث 11 أيلول” يحاول فرض وقائعه الشاملة، حيث أضفى الأمن على سلم الأولويات وعليه فإن تصفية كل الأدوات التي كانت مستخدمة سابقًأ في الحرب الباردة تصبح ضرورة قصوى كما حصل في أفغانستان وفي الحرب المستمرة ضد “القاعدة”.

وهذا المشروع الأميركي في خطته الجديدة في المنطقة يتعاطى مع تسوية الصراع العربي الإسرائيلي ضمن هذه السياسة الأميركية الجديدة، عبر ضرب العراق وتثبيت الوجود العسكري المباشر على ساحة الخليج كلها.

  • إن حركة التحرر الوطني العربي بقيادتها المعاصرة، أنظمة وأحزابًا تعيش واقع هزيمتها في الانصياع التام للمشروع الأميركي الاستعماري الجديد، غير قادرة على الحراك، وإن إدارة الظهر لهذا الواقع المؤلم والصعب ومحاولات الهروب إلى الأمام، التي تمارس الآن لن تفيد بشي، إلا بحصد خسائر إضافية في ظل التسوية الأميركية الراهنة.

في غمرة هذه الأحداث الكبيرة والمتحوّلة، فإن الشعب العربي بما يمثله من منظومة فكرية حضارية تاريخية هو في أولى استهدافات المشروع الأميركي الجديد، وإذا كان هناك من تنازلات تقدم من قبل الأميركيين فإنما تقدم، بفعل هذه الحيوية الممانعة للشعوب العربية، من ناحية، ولمخزونها الاستراتيجي من ناحية أخرى، (وهذا ما يعيه الأميركيون ويتعاطون معه، عبر أساليب مختلفة من أجل تطويعه).

ولا يقدم بأي حال من الأحوال إلى مجموع الأنظمة الخائرة القوى والمتهافتة.

وعليه فإن مواجهة الواقع عبر قراءة نقدية، تحدد أماكن الخلل في الشعار كما في الممارسة، أصبحت من الضرورات الملحّة، وللشعوب العربية، كما للتيارات السياسية دور كبير في ذلك للتأسيس لنقاش جديد يراكم وعيًا عربيًا جديدًا ومتجددًا في آن، ويحرر العقل السياسي العربي من طلاسمه وكوابحه.

[*] نشر في جريدة البلد في شهر تموز2004

 

زر الذهاب إلى الأعلى