بأقلامنا

الإمام موسى الصدر عطية الله للبنان بقلم د.علي عبدالله سيّد

    سيبقى الباحثون والدارسون إلى زمن قادم يمضون في دراسة سماحة الإمام السيد موسى الصدر الشخصية المؤسسية وصاحب التراث الإنساني والفقهي والفكري نظراً لأبعاد شخصيته التي إستطاعت في زمن الركود والإستكانة على مساحة الأمة ولبنان أن يحدث ربيعاً وطنياً إجتماعياً بالوسائل الديموقراطية عبر تحويله الحرمان من حالة إلى حركة متواصلة على حد تعبير رئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري.

فقد إعتبر أن الطائفية هي أصل مشكلة وإبتلاءات لبنان وبالتالي صياغة نظرية العيش المشترك وجعل لبنان مختبراً فريداً لتعايش ثماني عشرة طائفة ومركزاً لحوار الحضارات مقابل محاولة جعله ساحة لصِدام الأديان وإشعال الفتن في إطار فلسفة صراع الحضارات.

    ويشهد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل بعد لقائه الإمام وترتيبه للقاء بين الإمام الصدر والرئيس عبد الناصر “ان هذا الرجل – الإمام الصدر – من القلائل في الوطن العربي الذين يعرفون ما يريدون وإلى أين يصلون وعنده نظرة شاملة للأمور”.

فرؤيته وسبره لأغوار الحاضر والمستقبل والتنبيه من الأخطار المحدقة بالعالم العربي وخصوصاً حركة العدوانية الإسرائيلية ومساعيه من أجل إستنهاض أدوار المؤسسات الدينية في إطار الوحدة وكأنه كان ملتفتاً إلى هذه الأيام وإلى نهوض (السلفية) على خلفية قهر وضعف النظام العربي من جهة وعلى خلفية محاولة الغرب الطامع بالمنطقة وثرواتها إلى إيقاظ الفتن.

    “أرجو أن أكون خادماً في كيان لبنان وبقائه”  كان يردد هذه المقولة دائماً، وفي هذا السياق أحب أن أذكر كلام للكاردينال “فراس كونيغ” كبير أساقفة النمسا الذي إلتقى الإمام الصدر سنة 1970، حيث قال: “قد سمعت كثيراً عنك وأنا أؤمن بأن تاريخ لبنان ينقسم إلى فترتين فترة ما قبل الإمام الصدر وفترة ما بعد الإمام الصدر“.

    وكان شعاره “إن سلام لبنان هو أفضل وجوه الحرب مع إسرائيل” كما آمن أن لبنان نموذجاً فذاً وحضارياً في التعايش بين أديانه، وفي تعددها وتنوعها على أرضه “إن لبنان بواقعه البشري، مدعو لأداء دور حضاري في العالم، من خلال مستوى التعايش، ومن خلال دوره في الحوار العربي الأوروبي”.

    وإنطلاقاً من موقع لبنان في قلب العالم العربي والإسلامي، وأهمية دوره في التعايش الإسلامي المسيحي، وما يشمل من مساحات في الحرية والديمقراطية ضمن نطاقه السياسي والدستوري، تمكن الإمام الصدر من لعب دورٍ كبيرٍ في نشر هذه القيم على المستوى الإسلامي والعربي والدولي. ولقد عمل جاهداً لتكون تلك الأفكار والخواطر حقيقية ملموسة، لذلك لم يتوان أبداً عن العمل الجدي وإرساء مداميكه.

    فالإمام السيد موسى الصدر الذي كان داعية التعايش على أرض لبنان بين الطوائف والأديان، ليكون هذا النموذج في العيش سبيلاً يرتقي في خطه، وشعلة يستضيء بنوره كل تائه عن هذا المسلك الإنساني الحضاري، “إن التعايش الإسلامي المسيحي من أغلى ما في لبنان، وهذه تجربة غنية للإنسانية كلها” كما قال سماحة الإمام المغيب.

ولأن الطائفية العصبية تتقوقع على ذاتها كان الإمام موسى الصدر لا يدع سانحةً إلا ويكون المقدام الأول لضربها والعمل على تمجيد الطوائف المتفاعلة على الخير المتكاتفة على ديمومة الوطن.

    يقول الإمام الصدر متوجهاً للمسيحيين: “هم الحوار وأداته ورسله، وهم رسل لخلق الحوار والتكامل بين الإسلام والمسيحية بين الشرق والغرب بين العرب وأوروبا، إنهم أمناء على القدس في قبلتهم، لذلك فرسالتهم هي في وحدة هذا الوطن، وفي لبنان على الجميع أن يقيموا الحوار فيما بينهم، ليتفاهموا وليتحابوا وليعيشوا بسلام وختم: إن لبنان لا يحيا ولا يستمر إلاّ باللقاء وبالحوار بين الجميع وإذا أردنا أن يستمر إلى الأبد فما علينا إلاّ أن نؤمن بالحوار واللقاء ونعمقه فيما بيننا وبين الآخرين”.

    وكذلك من باب الحرص والغيرة على التعايش على أرض هذا الوطن، يرى الإمام  أن لبنان عنصر فعَال في أسس الحضارة الإنسانية، وهو عصارة أجيال عمرها آلاف السنين، لا نريد أن تهدم وتدمر تلك المنّة من الله على أيدينا.

    يقول الإمام موسى الصدر في حديث مع وفد نقابة المحررين: “لبنان في هذه المرحلة بالذات من تاريخ العالم، أصبح ضرورة قصوى له، وإن الحوار الأوروبي – العربي، لولبه الحوار الإسلامي المسيحي.

إن هذا العالم المترابط الذي يضم الأديان، والتعايش بين أبنائه من أجل استمرار الإنسان في بناء الدولة الواحدة الكونية مرتبط ومتأثر إلى حدٍ كبير بنجاح صيغة لبنان التعايشية. وإذا سقطت تجربة لبنان، سوف تظلم الحضارة الإنسانية لمدة خمسين عاماً على الأقل. أما التعايش اللبناني فهو أقدم من الميثاق الوطني ومن واضعي الميثاق الوطني ومن آبائهم وأجدادهم”. لهذا فإن الإمام الصدر نادى بالتعايش الذي يتكامل إلى وحدة حقيقية تبني وطناً مصاناً بتكاتف بنيه، على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، لأنه وبمنظور الإمام الصدر، قد يفضي التعايش إلى الإنصهار الوطني، حيث تذوب الفوارق الطائفية بالدرجة الأولى بالمواطنية، ويصبح ملاذاً لجميع الذين تظللهم سماؤه.

 وللدلالة على ما أحدثه الإمام الصدر في المجتمع اللبناني عموماً والمسيحي خصوصاً أذكر هذه الحادثة التي حصلت بتاريخ 24/أيلول/1974، حيث “جرى إستقبال الإمام الصدر في بلدة عشقوت، البلدة الكسروانية المارونية، بقرع الأجراس. وناداه الشباب هاتفين: “لن نتخلى عنك يا إمامنا، يا قداسة الإمام، ما دمت تنادي في كل زاوية من زوايا هذا الوطن بالمساواة والوحدة والتضامن”.

    وما جريمة إخفائه على أيدي النظام الليبي البائد في31/آب/1978 أثناء جولة له على بعض الدول العربية لشرح الموقف في جنوب لبنان بعد احتلال جزء كبير منه وصدور القرار425، إلا دليلاً على نشاط هذا الرجل الذي لم يهدأ في سبيل القضايا اللبنانية والإنسانية والوطنية والقومية.

 وأختم هنا بما قاله الشاعر والفيلسوف الراحل سعيد عقل: “قد يقال يوماً، كان موسى الصدر، بحبه وعمله الصامت والبعيد التطلع، عطية الله للبنان”.

22/08/2019                                                        د.علي عبدالله سيّد  

زر الذهاب إلى الأعلى