بأقلامنا

فلسطين: الهوية المتحققة بقلم الكاتب و الاعلامي غسان جواد

ليست المرة الأولى التي يُدهش فيها الفلسطينيون العالم. في كل مرحلة، ظنّ فيها القريب والغريب، الصديق والعدو، انتهاءَ الزخم الثوري الفلسطيني ودخوله في الهزيمة والسُّبات، فاجأ الفلسطينيون أنفسَهم، قبل غيرهم، بأحداث اهتزّ لها العالم، وأعادت تسليط الضوء والاهتمام على هذه المظلومية المستمرة.

عقب أحداث الأردن في الفترة 1969-1970، خرجت المقاومة من هذه الساحة الحيوية مهشَّمَةً. ساد الإحباط والغضب والعجز صفوفَ الثورة الفلسطينية، وبدأ طرح الأسئلة بشأن مستقبل المقاومة بعد “أيلول الأسود”. يومها، طرح الفلسطينيون على أنفسهم ما يلي: ماذا بعد؟ وإلى أين؟

وجاء الجواب من خلال تبنّي مفهوم “العنف الثوري”، والعمليات الخارجية، وخطف الطائرات، واستهداف المصالح الإسرائيلية في كلّ مكان. بعدها بقليل، التقطت الثورة أنفاسها، واستعادت المقاومة حضورها وتوازنها، وحصدت مزيداً من الاعتراف والتعاطف. تجدَّدت الاتصالات العربية والدولية بـ”منظمة التحرير”، لاحتواء هذه الموجة، وأُعيد الاعتبار إلى الفدائيِّين بعد أن كاد خروجهم من الأردن يكون ضربةً لا قيامَةَ بعدها.

بعد اجتياح عام 1982، وخروج الثورة من بيروت إلى تونس، وما تلاه من مخاطر ومطبّات وانقسامات وصراع عربي- فلسطيني، انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى عام 1987، فأعادت تصويب الموقف، ونقلت الصراع والقضية من حالة الاستنزاف والمراوحة والشتات في الخارج، إلى المواجَهة المباشِرة مع الاحتلال في الداخل.

في عام 2000، كانت “الانتفاضة الثانية” المسلَّحة ردّاً على اقتحام أرييل شارون المسجدَ الأقصى بحماية ألف شرطيّ إسرائيليّ، وتعبيراً عن الشعور بالخديعة والخيبة أمام التعنّت الإسرائيليّ وانهيار مسار “التسوية” وسقوط الرهان عليه.

تاريخ القضية الفلسطينية يزدحم بهذا النوع من الأحداث. موجات ثورية تشتعل، وتخبو قليلاً، ثم تشتعل، لتستعيد موقعها وصدارتها في التعاطف والاهتمام.

يبدو الأمر مرتبطاً، على نحو ما، بالشعب الفلسطينيّ نفسه، وآلياته، وصيرورته التاريخية. منذ اللحظة الأولى لضياع فلسطين، حماسة العرب والمسلمين والرأي العام العالمي، يستمدّونها من إصرار هذا الشعب. إذا كان ساكناً، محبَطاً، تسلَّل اليأس إلى الجميع. وعندما يقرّر أن يقاتل، يرتفع منسوب التفاعل، وتعود الحيوية إلى الوجدان. حبل سرّة يربط الجانبين. إذا ارتخى في فلسطين، استمرّت الحياة بلا اكتراث. وإنِ اشتدَّ هناك، شعر العرب والمسلمون وأحرار العالم بالألم.

جغرافية المواجهة فوق عموم فلسطين التاريخية. إعلان عن الهوية الواحدة لهذا الشعب. “الهوية الفلسطينية” نقطة ارتكاز في إنهاء الانقسامات وإيضاح قضية الفلسطينيين أمام العالم. الوطنية الفلسطينية التامَّة والمتحفِّزة للقتال أوَّلُ مكتَسبات المعركة. وكذلك، عودة الشعور، قومياً وإسلامياً، ليتفاعل مع القضية بصفاء خارج الفتن والحروب الأهلية والطائفية.

قبل يوم واحد من انتفاضة “الشيخ جرّاح” وهبّة المقدسيين، كانت القضية كلها في خطر عظيم. موازين القوى الدولية، والانحياز الأميركي- الدولي إلى “إسرائيل”، وذيول “صفقة القرن”، وموجة التطبيع العربي، والانقسام الفلسطيني، كلُّها وقائع جعلت المتلقي عن بُعد يظنّ أن هذا الملف في طريقه كي يُطوى وينتهي ويندثر.

هذه الجولة من المواجهة والاشتباك مع الاحتلال، نقلت القضية الفلسطينية في اتجاه أفق جديد، ومزيد من التبلور والوضوح. لقد أعادت طرح الموضوع في جوهره. ثمة مشكلة في هذا العالم اسمها احتلال فلسطين، وهناك شعب يخوض معركة الهوية والشخصية الوطنيتين، والعودة إلى ارضه.

في أحد خطاباته تعليقاً على “التطبيع” ومسارات صفقة القرن، قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله: “الأهم من خطة ترامب، هو موقف الفلسطينيين أنفسهم. الموقف الفلسطيني هو الحجر الأساس في مواجهة هذه الخطة”.

الرهان على الفلسطينيين نابع من قراءة التاريخ وفهم التجربة.

لم يتوقّف النضال الفلسطيني منذ الاحتلال البريطاني وازدياد الهجرة الاستيطانية اليهودية إلى فلسطين وتأسيس دولة الاحتلال. أخذ أشكالاً متعدِّدة في كل مرحلة وحِقبة. وظلّ القاسم المشترك، في كل هذا التاريخ، وعيٌ فلسطينيّ أصيل وهوية متحقّقة، تعبِّر عن نفسها عند كلِّ فرصة، وحيال كلِّ خطر

المصدر : الميادين نت

 

زر الذهاب إلى الأعلى