بأقلامنا

إنَّ في أيّامِ الحجِّ والعيدِ أبعاداً سماويةً لرقيِّ الإنسانِ بقلم الشيخ ربيع قبيسي

بسم الله الرحمن الرحيم
{وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ يأْتِينَ منْ كل فَجٍّ عميقٍ}
صدق الله العلي العظيم

إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفضَّله على باقي مخلوقاته وزيّنه بزينة العقل، وجعله خليفته على الأرض، فإذا أراد الإنسان أن يستثمر تلك الأمانة التى أودعها الله تعالى في قلبه وعقله عليه أن يبدأ أولاً بشكر الخالق الديّان، وأن يعيش أيام الطاعة لله تعالى، وإننا في أيام الحج ، حيث كان من المفترض أن يكون حجاج بيت الله الحرام يلبُّون نداء السماء (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك) مبتهلين لله راجمين للشيطان، آخذين بإستثمار الأمانة التي أودعها الله عندهم، متجهين نحو تغيير أخطائهم ونفسياتهم لأن مناسك الحج ليست تراثاً أو عاداتٍ أو شعاراتٍ عابرة إنّما الحج فريضة وركن من أركان ​الإسلام​، أوجبه الله تعالى لمن استطاع إليه سبيلاً، والإستطاعة ليست فقط مادية بل على كل مستويات الإستطاعة التي تجعل من الإنسان المؤمن يصل إلى أهداف الحج، لأننا في الإسلام نعتبر أن الحجَّ أمرٌ مهمٌ في بناء شخصية الإنسان وأنّ وراء هذه الفريضة أبعاد وتأثيرات في نفسية الفرد والجماعة، وإذا أمعنا النظر في كل منسكٍ من مناسك الحج لوجدنا الأبعاد والإنعكاسات الكثيرة التي ترتقي بالإنسان إلى مستوى إنسانيته وهذا ما أراده الله سبحانه وتعالى، ومن تلك الإنعكاسات على شخصية الحاجِّ تغير حالته الروحية وتجلّيها في خطابه مع الله والتأثر الأخلاقي والتربوي ومن هنا ننطلق بتلك المناسك لنغذي الفكر والعقل، والضمير والوجدان.

أيّها الأحبة إنّ في مناسك الحج منافع كثيرة يقول الله تعالى: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ يأْتِينَ منْ كل فَجٍّ عميقٍ ليشهدوا منَافِعَ لَهُم.( الحج آية 27-28 ).

إن رحلة الحجّ تبدأُ بتهيئة الأجواء التي تتناسب مع أداء الفريضة حيث يتخلى الإنسان عن الماديات وتوابعها، فيتجرّد من الثياب وألوانها وجودتها ليستر بدنه بقماش تتساوى فيه كل طبقات المجتمع فيعيشون أيام الحج والعيد برتبة واحدة، من ثم يتخلى عن زخارف الدنيا وحليها وعطرها ملبَّياً دعوة الله المباركة بكل إخلاص، وتختلط أصناف البشر رغم إختلاف ألوانهم ومشاربهم ولغاتهم، لكن اتجاههم واحد ونداءَهم واحدٌ (لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريك لك لبَّيكَ، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك..) وتستمر رحلة التواصل مع الله من الطواف بالقلب مع الملائكة حول العرش إلى السعي والهروب من الهوى إلى الوقوف بعرفات والمشعر الحرام للإعتراف بالخطايا وتجديد العهد مع الله إلى رمي الأخطاء والمحرمات بالجمرات إلى حلق الذنوب وغيرها من المناسك، ويستمر التواصل بفنون الدعوات والتهليل لله تعالى.

رَوى هِشَامُ بْنِ الْحَكَم قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ(ع) فَقُلْتُ لَهُ: مَا الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا كَلَّفَ اللَّهُ الْعِبَادَ الْحَجَّ وَالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ؟

فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ـ إِلَى أَنْ قَالَ ـ وَأَمَرَهُمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الطَّاعَةِ فِي الدِّينِ وَمَصْلَحَتِهِمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ، فَجَعَلَ فِيهِ الِاجْتِمَاعَ مِنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ لِيَتَعَارَفُوا، وَلِيَنْزِعَ كُلُّ قَوْمٍ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَلِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ الْمُكَارِي وَالْجَمَّالُ، وَلِتُعْرَفَ آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ (ص) وَتُعْرَفَ أَخْبَارُهُ وَيُذْكَرَ وَلَا يُنْسَى، وَلَوْ كَانَ كُلُّ قَوْمٍ إِنَّمَا يَتَّكِلُونَ عَلَى بِلَادِهِمْ وَمَا فِيهَا هَلَكُوا وَخَرِبَتِ الْبِلَادُ وَسَقَطَتِ الْجَلَبُ وَالْأَرْبَاحُ وَعَمِيَتِ الْأَخْبَارُ، وَلَمْ تَقِفُوا عَلَى ذَلك، فَذَلِكَ عِلَّةُ الْحَجِّ.

إنّ رحلة الحج كما يقول السيد موسى الصدر (…هي رحلة إيمانٍ ببعديه: البعد السماوي والبعد الأرضي)، لأن الإنسان ينتقل بجسده إلى المناسك وبيت الله وكذلك ينتقل من حالة الأنانية إلى الشعور بالآخر ومن الفرد إلى الجماعة.

وبلا شك أن يوم العيد هو يوم المغانم في الحج حيث أن المؤمن ينتقل من مرحلة إلى أخرى يعيشها بكل تفاصيلها، ويمكن لكلّ الناس أن تحجّ إلى تلك المناسك بغايتها وأبعادها من الأخلاق والمحاسن والمبادئ التي اجتمعت عليها كل الرسالة السماوية والتي أكّدتها المسيحية والإسلام، إلى التقوى والورع والفضيلة.

نعم يمكن لنا أن نطوف حول الفقراء والمستضعفين والمتألمين وأن نهرول بين الناس لنستمع إلى حاجاتهم، قال الإمام جعفر الصادق (ع) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُنْدَبٍ: ” يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، الْمَاشِي فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَالسَّاعِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَاضِي حَاجَتِهِ كَالْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَمَا عَذَّبَ اللَّهُ أُمَّةً إِلَّا عِنْدَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِحُقُوقِ فُقَرَاءِ إِخْوَانِهِمْ ”

ومن ثم نكمل حجَّنا بأن نرجم أخطاءَنا ونوايانا الملوثة اتجاه بعضنا البعض، وأن نفرح بالعيد لأن العيد فرحة وبسمة أمل على وجوه محتاجيها، وأن يكون العيد محطةً لكي نسامح بعضنا البعض وننظر إلى مستقبل أبنائنا ومستقبل أوطاننا بعيداً عن القتل والدمار والتهجير والتفكيك، وأن نعيش جميعاً الحب في يوم العيد، ونعلِّم أبناءنا أن نحب جميع الناس فبالحب يعيش الناس جميعًا في سلام، حتى نشارك حجاج بيت الله الحرام دعاءهم وتلبيتهم.

كلّ عام وأنتم بخير وأسعد الله أيامنا وأيامكم في طاعة الله تعالى وحُسن الإرتباط بنبيه محمد (ص) وأهل بيته الأطهار ، ونسأل الله تعالى أن يدفع البلاء بحق هذه الأيام المباركة والشريفة حتى ننعم بحج بيته الحرام في العام القادم ، وأن يدفع الله البلاء والوباء عن البشرية والإنسانية جمعاء بحق محمد وال محمد .

المكتب الثقافي لإقليم جبل عامل في حركة أمل

زر الذهاب إلى الأعلى