أخبار صور و الجنوب

موسمُ الحجِّ: تلبيةٌ لنداءِ اللهِ ومنافعُ للنَّاس بقلم العلامة السيد علي فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحجّ: 27-28]. صدق الله العظيم.
بدءُ موسمِ الحجّ
نستعيد في هذه الأيَّام موسماً جديداً من مواسم الحجّ، حيث بدأت قوافل الحجيج تفد من كلّ مكان، ومن كلّ فجّ عميق، إلى بيت الله الحرام، تلبيةً لنداء ربّها، واستجابةً له لأداء فريضة الحجّ؛ هذه الفريضة الَّتي أوجبها الله سبحانه على كلِّ قادر عليها، والَّتي أشار إليها بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.
وقد شدَّد الله عزَّ وجلَّ على أداء هذه الفريضة والمبادرة إليها، عندما اعتبرَ جحودها كفراً به وعصياناً لأوامره، فقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وأنَّ الله أراد هذه الفريضة لحساب النَّاس لا لحسابه، فهو غنيّ عن عباده، لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه.
وعن رسول الله (ص) أنَّه قال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُم الْحَجَّ فَحُجُّوا”، اي بادروا إلى هذا الواجب ولا تتأخَّروا في أدائه.
من أهدافِ الحجّ
وقد أشار الله عزَّ وجلَّ إلى أنَّ الهدف الذي يرجوه من هذه الفريضة هو المنافع للنَّاس، وهو ما عبَّر عنه للنبيّ إبراهيم (ع)، عندما دعاه أن يعلن للحجّ ويدعو النَّاس إليه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}. فقد أراد الله من هذه الفريضة أن تؤمِّن، أوَّلاً، التَّلاقي بين المسلمين بكلِّ تنوّعاتهم، والتعارف فيما بينهم، أن لا يقف أمام ذلك حاجز الوطن أو الجنس أو اللَّون أو المذهب والتّوجّهات الفكريَّة، وأن تساهم في تعزيز أواصر الوحدة فيما بينهم، وهم يقفون على صعيد واحد، وفي وقت واحد، ليؤدّوا مناسكهم معاً، عندما يطوفون معاً، ويسعون معاً، ويقفون معاً في عرفات والمشعر الحرام، ويبيتون في منى معاً يرجمون الشَّيطان، لا فرق بينهم في كلِّ ذلك.
ثانياً: هو يساهم في أن يستعيد الحجَّاج في مكَّة والمدينة ما يذكِّرهم بما جرى فيهما، فيما عاناه رسول الله (ص) عندما انطلق بدعوته، وما عاناه أصحابه وبذلوا من جهودٍ، وما قدَّموا من تضحيات ودفعوا من أثمان، حتَّى قام هذا الدّين، وتعزَّزَ ووصلَ بعد ذلك إليهم، حتَّى يشعروا بمسؤوليَّتهم تجاهه في حفظه، وإيصال صوته إلى كلِّ مكان يستطيعون إيصاله إليه، ليكون رحمةً للعالمين، وحلًّا لأزماتهم وما يعانونه.
وثالثاً: ليُشهدوا الله عزَّ وجلَّ أنَّهم لن يتأخَّروا بأن يلبّوا نداءه وما دعا إليه، يعبِّرون عنه بقولهم: “لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريكَ لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك لبَّيك”، وعندما يطوفون حول الكعبة المشرَّفة، والَّتي هي إعلان منهم بأنَّ الله سوف يكون محور حياتهم، وأنَّهم سيبقون حوله في أيِّ مكان كانوا، وفي أيِّ زمان، يستمدّون منه تعاليم دينهم، وخلال سعيهم بين الصَّفا والمروة، أنّهم لن يحيدوا عن خطّ الاستقامة في الطَّريق إلى الله خلال رحلة حياتهم، وبوقوفهم في عرفات والمزدلفة ومبيتهم في منى، أنهم سيقفون حيث يريد الله لهم أن يقفوا، ولن يبيتوا إلَّا حيث يريدهم أن يبيتوا، حتَّى لو كلَّفهم ذلك تعباً وجهداً ومشقَّة، وسوف يرجمون الشَّيطان، وأنَّهم لن يهادونه ولن يجاملوه ولن يطيعوه، ولن يتردَّدوا في ردِّ كيده وغدره وأحابيله، ليعودوا بعد كلِّ ذلك إلى بلادهم، وقد تزوَّدوا بكلِّ هذه المعاني، وحظوا بما وعدوا به من المغفرة والرَّحمة والرّضوان من الله عزّ وجلّ، حيث ورد في الحديث: “الحاجّ المعتمر وفد الله، وحقٌّ على الله أن يكرم وفده، ويحبوه بالمغفرة”.
وفي الحديث: “حجّوا واعتمروا، تصحّ أجسامكم، وتتَّسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتُكفوا مؤونة النَّاس ومؤونة عيالكم”.
مسؤوليَّةٌ.. وإحياءٌ
ولكن يطرح هنا التساؤل: ما وظيفة الَّذين لم يحجّوا أو من لم يؤدّوا هذه الفريضة؟ وهل هناك ما عليهم أن يقوموا به في هذه الأيَّام المباركة؟
نعم، هناك ما ينبغي القيام به، بأن يتابعوا، أوَّلاً، الحجَّاج في كلِّ خطوة من خطواتهم، ليعيشوا معهم المعاني الَّتي يعيشونها، فيكونوا بذلك مشاركين في الحجِّ بقلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم.
وهناك أمر آخر ينبغي القيام به، وهو إن لم يكن من الواجب، فإنَّه من المستحبَّات الَّتي تمَّ تأكيدها في القرآن الكريم والأحاديث الشَّريفة، وهو إحياء هذه الأيَّام المباركة، الأيَّام العشر الأوائل من ذي الحجَّة الَّتي تبدأ من هذا اليوم، فقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أهميَّتها، عندما أقسم بها، وهو ما ورد في سورة الفجر، حين قال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}(الفجر: 1-2)، حيث جاء على لسان أغلب المفسِّرين، أنَّ المقصود بها اللّيالي والأيَّام العشر من ذي الحجَّة، عندما قال عزَّ وجلَّ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}، وقد فسِّرت هذه بالأيَّام العشر، والتي لا تختصّ بالحجَّاج، بل بكلّ الناس.
وفي الحديث عن رسول الله (ص): “ما من أيَّام العمل الصَّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيَّام العشر”.
ففي هذه الأيَّام، يستحبّ الصّيام، صيام الأيَّام التّسعة منها، ووردت صلاة ركعتين تُؤدَّى كلَّ يوم بين المغرب والعشاء، والَّتي تقرأ فيها الفاتحة والتَّوحيد وآية: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} وفسِّرت العشر بأيَّام ذي الحجَّة.
وورد أيضاً الإكثار من الأدعية، والحثّ على التَّهليل والتَّكبير والتَّسبيح في خلالها، وإحياء يوم عرفة الَّذي يأتي في التَّاسع منها، هذا اليوم المبارك الَّذي يقف فيه الحجَّاج على صعيد عرفة، وهم بثياب إحرامهم، في مشهد مهيب، ليدعوا الله فيه، وبكلِّ اللّغات، بأن نشاركهم الدّعاء إلى الله عزّ وجلّ، والوقوف بين يديه، نسأله العفو والمغفرة والعتق من النَّار والفوز بالجنَّة، ولنبثَّ إلى الله همومنا وشكاوانا وما نعانيه، فهو اليوم الَّذي بسط الله فيه موائده وإحسانه وفضله وكرمه لعباده الذَّاكرين له والدَّاعين.
وتتوَّج هذه الأيَّام بيوم العيد، الَّذي هو يوم فرح وسرور، لكن لا لكلِّ النَّاس، بل للذين أدّوا لله عزّ وجلّ ما دعاهم إليه، فهو كما في الحديث: “عيدٌ لمن قبل الله صيامه وقيامه”، هو ليس للكسالى عن أداء ما دعاهم الله إليه وحثّهم عليه، فلنكن أهلاً لهذا العيد.
التَّزوّدُ الرُّوحيّ
أيُّها الأحبَّة: نحن أحوج ما نكون إلى هذا التزوّد الروّحيّ، لنكون أقرب إلى الله والحصول على ثوابه وما وعد به، ولنواجه التحدّيات الَّتي لا بدَّ أن نواجهها، ولنحظى بما وعد في كتابه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(الطَّلاق: 2-3).
***

زر الذهاب إلى الأعلى