أخبار صور و الجنوب

وصيَّةُ الإمامِ عليّ (ع) إلى المسلمينَ قبلَ استشهادِه العلامة السيد علي فضل الله

وصيَّةُ الإمامِ عليّ (ع) إلى المسلمينَ قبلَ استشهادِه
العلامة السيد علي فضل الله
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207] صدق الله العظيم.
الفاجعةُ الكبرى
في فجر اليوم التاسع عشر من شهر رمضان من السنة الأربعين للهجرة، حدثت الفاجعة الكبرى التي ألـمَّت بالمسلمين جميعاً، حين أهوى عبد الرَّحمن بن ملجم بسيفه المسموم الغادر على رأس أمير المؤمنين، وهو قائم في محرابه يصلّي بالنَّاس صلاة الفجر في مسجده بالكوفة.
كان يوماً عصيباً على المسلمين، هزَّ مشاعرهم، وأدمى قلوبهم، وأبكى عيونهم، حين رأوا إمامهم الَّذي ملأ حياتهم علماً وعملاً وجهاداً وبذلاً وعطاءً وحبّاً لهم، مسجَّى أمامهم، يعاني ألم الجرح الَّذي أصابه، لكنه كان بالنّسبة إلى عليّ (ع) إعلاناً منه بفوزه في رحلة الحياة الَّتي عاشها، عندما قال حينها: “فزْتُ وربِّ الكعبة”، وهي حياة أفناها في طاعة الله، وجهاداً في سبيله، وسعياً لإعلاء كلمته، وأميناً على الدَّور الذي أسند إليه، لم يساوم على حقّ أو عدل أو على مصالح المسلمين والنَّاس الذين كانوا تحت ولايته، وقد ختمها بالشَّهادة لأجل كلِّ ذلك.
ردُّ فعلٍ رساليّ
وقبل أن يغادر عليّ (ع) الدنيا، حرص على أن لا يتركها إلَّا بعد أن يستنفد كلَّ جهده من أجل إيصال رسالته إلى النّاس… توجَّه يومها إلى كلّ الذين كانوا يحيطون به قائلاً لهم: “سلوني قبل أن تفقدوني، فإنِّي بطرق السَّماء أعلم منِّي بطرق الأرض”.
كان حريصاً رغم الألم الَّذي يعانيه بسبب الجرح الذي أصابه، أن يستفيد النَّاس من العلم الَّذي أودعه رسول الله (ص) عنده، عندما قال: “علَّمني رسول الله (ص) ألفَ بابٍ من العلم، يُفتَح لي من كلِّ باب ألف باب”، فحثَّهم على أن يسألوه عن أمور دينهم ودنياهم قبل أن يغادرهم.
بعدها، توجَّه إلى سجَّاني ضاربه، فهو لم يرد لهم أن يتصرَّفوا معه بوحي انفعالهم، رغم فداحة ما قام به وقسوته، عندما غدره بسيفه المسموم، مستبيحاً حرمة بيت الله عزَّ وجلَّ والصلاة وصيامه في شهر رمضان، فقال لهم: “أطعِموه من طعامي، واسقُوه من شرابي، وأحسنوا أساره”، فهو أسير وله حقّ الأسير.
ثمّ أراد أن ينبِّه عشيرته بني عبد المطلب، فدعاهم إلى أن لا يتعاملوا مع قاتله بالمنطق العشائريّ الَّذي لا يكتفي بقتل القاتل، بل يقتل كلَّ من له صلة به، أو من يوازي المقتول في موقعه، فهو أراد أن يثبت المنطق الإسلاميّ، أنَّ القاتل فقط هو من يُقتَل، مهما علا موقع المقتول، وبالأسلوب نفسه الذي قتل به، فقال لهم: “يا بني عبد المطَّلب، لا ألفينَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قُتل أميرُ المؤمنين، ألا لا يُقتلنَّ بي إلّا قاتلي. انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربتِهِ هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثِّلوا بالرَّجل؛ فإنِّي سمعت رسول ‏اللَّه (ص) يقول: إيَّاكم والمُثْلَةَ ولو بالكلب العقور”.
وصيَّتُهُ (ع) إلى المسلمين
بعدها توجَّه بوصيَّته إلى ولده الإمام الحسن (ع)، ومن خلاله إلى أهل بيته وكلّ من بلغه كتابه، قائلاً له: “أوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي وولدي، ومن بلغه كتابي، بتقوى الله ربّكم، ولا تموتنّ إلَّا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصَّلاة والصّيام، وإنَّ المبيرة الحالقة للدّين، فساد ذات البين، ولا قوَّة إلّا بالله العلي العظيم”. ثمَّ قال: “انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم، يهوّن الله عليكم الحساب. الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (ص) يقول: من عال يتيماً حتّى يستغني، أوجب الله عزَّ وجلَّ له بذلك الجنَّة، كما أوجب لآكل مال اليتيم النَّار.
اللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُم.
اللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فإنَّ رسول الله(ص) أوصى بهم ومَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ.
اللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ ـ في المسجد ـ لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا.
اللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا خيرُ العملِ، إنَّها عَمُودُ دِينِكُمْ.
اللهَ اللهَ في الزَّكاة، فإنَّها تطفئُ غضبَ ربِّكم.
اللهَ اللهَ في صيامِ شهرِ رمضانَ، فإنَّ صيامَهُ جُنَّةٌ من النَّار.
اللهَ اللهَ في الفقراءِ والمساكينِ، فأشركوهم في معايشِكم.
وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ…
الصَّلاة الصَّلاة الصَّلاة، لا تخافوا في الله لومةَ لائم، يكفكم الله مَن آذاكم وبغى عليكم. قولوا للنَّاس حُسناً كما أمركم الله.. قولوا للنَّاس حسناً، وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ والتّبادرِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ والتّفرّق.
ولا تَتْرُكُوا الأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”.
وعندما بدأت تباشير انتقال الإمام من هذه الدّنيا إلى رحاب ربِّه، وقبلَ أن تفيضَ روحه الطّاهرة إلى بارئها، أدارَ عينيه في أهل بيته كلِّهم وقال: “حفظَكم اللهُ من أهلِ بيتٍ، وحفظَ عليكم نبيَّكم، أستودعُكم اللَّه جميعاً، سدَّدكم اللَّه جميعاً… حفظَكم اللَّه جميعاً.. خليفتي عليكم اللَّه، وكفى باللَّه خليفة”.
وما زالَ يذكر الله ويتشهَّد الشَّهادتين… ثمَّ استقبل القبلة وأغمض عينيه وقال: “أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله”…
حفظُ الوصيَّةِ
أيُّها الأحبَّة: ونحن نستعيد هذا اليوم الحزين الَّذي تهدَّمت فيه أركان الهدى، وانفصمت فيه العروة الوثقى، حين استُبيح دمُ أوّل النَّاس إسلاماً، وباب مدينة علم رسول الله وأخيه وعضده، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى، ومن عرفته ميادين الحرب والسِّلم والعدل والحكمة والحنوّ والرأفة على الفقراء والأيتام والضعفاء، لن نكتفي بأن نعبِّر عن حزننا وألمنا لما أصابه، بل سنحرص على أن ندخل إلى ساحته، لنأخذ من مواقفه وكلماته وسيرته ما يكون زادنا في الحياة، وأن نستوصي بما أوصى به:
أن لا يضيع الأيتام بحضرتنا، ولا يعاني الفقراء من فقرهم، وأن نحسن مجاورة من جاورنا، وأن نعمل بالقرآن، أن نحفظ الصَّلاة، ولا نخلي بيت ربِّنا ما بقينا، أن نجاهد في سبيل الله بأموالنا وأنفسنا، وأن لا نقول إلَّا خيراً، ونتعاون على البرِّ والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان، وأن نكون جاهزين للقاء ربِّنا، بحيث نستطيع أن نقول ما قال: فزت وربِّ الكعبة، وأن نتوجَّه حيث هو في رحاب ربِّه، لنقول له:
رحمك الله يا أبا الحسن، كُنْتَ لِلْكافِرِينَ عَذاباً صَبّاً، وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَهَفاً وَحِصْناً، كُنْتَ كَالْجَبَلِ لا تُحَرّكُهُ الْعَواصِفُ.. شَأْنُكَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالرّفْقُ، وَقَوْلُكَ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَأَمْرُكَ حِلْمٌ وَحَزْمٌ، وَرَأْيُكَ عِلْمٌ وَعَزْمٌ فِيْما فَعَلْتَ، وَقَدْ نَهَجَ بِكَ السَّبِيلُ، وَسَهُلَ بِكَ الْعَسِيْرُ، وَأُطْفِئَتْ بِكَ النَّيرانُ، وَاعْتَدَلَ بِكَ الدّيْنُ، وَقَوِيَ بِكَ الإِسْلامُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَبَقْتَ سَبْقاً بَعِيداً، وَأَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ تَعْباً شَدِيْداً، فَجَلَلْتَ عَنِ الْبُكاءِ، وَعَظُمَتْ رَزِيَّتُكَ فِي السَّماءِ، وَهَدَّتْ مُصِيْبَتُكَ الأَنامَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. رَضِينا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنا لِلَّهِ أَمْرَهُ.. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ

زر الذهاب إلى الأعلى