تحقيقات

جوليا وارْد هاو: المرأَة المقاوِمة في ضمير الوطن بقلم الشاعر هنري زغيب

المصدر: بيروت- النهار العربي

اليومَ يوم المرأَة العالَمي. ولا يجوز أَن يمر من دون الحديث عن المرأَة الرائدة، كما هذه الشاعرة، الناشطة الاجتماعية، والمناضلة ضد الاسترقاق.

 إِنها جوليا وارْد هاوْ (1819-1910)، السيدة الأَميركية التي صبغت عصرها بنضالها وكتاباتها تاركة في شعبها أثرًا لا يُمحى.

فماذا عنها؟

النشيد الذي شهَرها

في تشرين الثاني/نوفمبر 1861، ومن غرفتها في فندق “ويلارد” الشهير (تأَسس سنة 1816، تم ترميمه سنة 1847، ومرة أَخيرة سنة 1901)  إبان حصار واشنطن العاصمة، كتبت كلمات “نشيد المعركة” الذي ذاع واسعًا وأَصبح نشيدًا وطنيًا في الحرب الأَهلية الأَميركية (1861-1865). وفي مذكراتها (1899) كتبَت: “يستحيل أَن أَقول كم مرة طُلِبَ مني أَن أَتذكَّر الظروف التي جعلتني أَكتب هذا النشيد”.

وفعلًا، بقيت حتى وفاتها عن 91 عامًا تروي وتعيد روايتها عن تلك الظروف إِبان الحرب الأَهلية، والنشيد الذي شهرها عصرئذٍ في كل أَميركا. وفي أَماكن عدة سافرت إِليها أو حاضرت فيها أَو دعيَت إِلى لقاء، كان يُطلب إِليها أَن تُلقي كلمات ذاك النشيد أَو أَن تُنشدَهُ بصوتها الـ”كونتر أَلتو”، وغالبًا ما كانت تحضر إِلى قاعات يُنشدُهُ فيها كورس أَو أَداء منفرد، حتى أَن تلك القصيدة أَمست محور حياتها بين الآخرين.

من أَهمية مسيرتها الـمُشَرّفة، فور صدرت سيرتها سنة 1916كما وضعتْها بناتها الثلاث بعد ست سنوات على غيابها، نال الكتاب جائزة پوليتْزر الشهيرة (أَسسها الناشر جوزف پوليتزر سنة 1917، إِبان الحرب العالمية الأُولى لتكريم شخصية وطنية خدمت أَميركا). وعند تسليم الجائزة، كان نيكولا باطْلِر (رئيس جامعة كولومبيا ومدير الجائزة) أَعلن أَن هذا الكتاب “أَفضل سيرة أَميركية تعلّم الوطنية والتجرُّد في خدمة الشعب، وما قامت به جوليا نموذجٌ يُشرِّف الأَميركيين جميعًا”.

نشاطها في الحقل العام

سوى أَن الكتاب (بجزءَيه) ليس تعليميًّا كما وصفه الرئيس باطلر، بل هو تجميع لكتابات جوليا ورسائلها وقصائدها ومذكراتها ويومياتها التي تظهر فيها مندفعة بالخير العام إِلى مساعدة أُسرتها كما في مساعدة شعبها عمومًا، كما تظهر فيها امرأَة دمثة طريفة محبوبة من دون تكبُّر أو تنمُّر.

واهتماماتها الوطنية في الخدمة العامة، لم تشغلها عن تربية أُسرة من ستة أَولاد،  وإِتقانها ست لغات، ونشْر ستة كتب، والقيام بنشاط اجتماعي واسع في الرعايا حولها ولدى الجمعيات الثقافية في بوسطن، من أجل إلغاء الاسترقاق الذي دفعها إِلى أَن تجوب الولايات المتحدة وجزر الكارايـيب وكوبا وإِنكلترا وفرنسا وإِيطاليا وسويسرا وأَلمانيا وهولندا وبلجيكا واليونان وقبرص وفلسطين ومصر. وأَسست “اتحاد النساء الأَميركيات” وترأَّسته فترة طويلة، كما ترأَّست “نادي المرأَة في نيوإنكند”، و”جمعية نيوإِنكلند للمطالبة بحق الاقتراع”، و”الجمعية الأَميركية للمطالبة بحق الاقتراع”. وكانت جوليا أَول امرأَة أَميركية تدخل إِلى عضوية “الأَكاديمية الأَميركية للفنون والآداب”. وإِذ هي ولدَت بعد ثلاثة أَيام من ولادة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، غالبًا ما كانت تُلَقَّب “ملكة أميركا”.

جوليا في أَواخر حياتها

الزواج المضطرب

  كتبت بناتها في السيرة قصة لافتة عن زواج والدَيهنَّ. ذلك أَن جوليا، حين تزوَّجت من الطبيب صموئيل غريدلي هاوْ (1801-1876)، كانت معروفة كشاعرة وفتاة جميلة ورثت ثروة كبرى، حتى أَنها في أَوساط نيويورك كانت أَحيانًا تُسمّى “الديفا”. وكان صموئيل يكبرها بثماني سنوات ومشهورًا كبطل الثورة اليونانية من أَجل الاستقلال (1821-1831)، وكذلك صاحب طريقة فريدة في تعليم الأطفال العميان، حتى أَن الناقد الأَميركي جون جاي تشامبان (1862-1933) لقّبه “بين أَشهر الأَطباء في العالم المتحضِّر”.

غير أَن زواجهما لم يكن دومًا هادئًا هانئًا سعيدًا، وكان بينهما خلاف متنوع حول العلاقة الجنسية والمال والاستقلال والسياسة والحُكْم. وكانا أَحيانًا ينفصلان لفترة متباعدَين فيعمل كلٌّ منها على انفراد. فبالرغم من حماسة صموئيل للعمل على محو الاسترقاق، كانت له نظرة محافظة خاصة إِلى النساء ودورهنَّ في الحياة العامة.  وتاليًا كان يريد زوجته أَن ينحصر دورها في البيت أُمًّا وزوجة، وأَن تخضع لزوجها في قرارته. هكذا كان في الخارج شخصية معروفة بالخير والإِصلاح الاجتماعي، بينما في الداخل كان دكتاتورًا قاسيًا عنيدًا في فرض أَوامره وتعليماته، ما يجعله – كزوج ووالد – مزعجًا ذا أَخطاء وشكوك، فيما كانت جوليا تتوقع لها زوجًا متفهمًا يُدخلها إِلى عالَم من الأَفكار والإِصلاحات ويتيح لها العمل في هذا العالَم، وكانت تتمنى زوجًا تتساوى معه في القرارات ويترك لها حرية التصرف وتنمية نشاطها، وخصوصًا في كتابة رواية أَو مسرحية. لكنها اعتادت على ترويضه بتلبية طموحاتها.

طابع وطني على اسم جوليا

تَخَطِّيها العقبات الزوجية

المنعطف الكبير في حياتها كان تأْليفها “نشيد المعركة”، إِذ أَعطاها سلطة وقوّةَ تفتًّح على نشاطها. فالحرب الأَهلية الأَميركية في القرن التاسع عشر وعّت المرأَة على الاستقلال بقراراتها وعلى خروجها من القمقم الزوجي الظالم. هكذا قامت في البيت “حرب أَهلية” داخلية بين جوليا وصموئيل، حول حقها في الاستقلال والمساواة والصوت العام في العمل العام.

هكذا، بعد وفاة زوجها، انطلقت جوليا في صقل هُويتها الخاصة، ما جعلها في النصف الآخر من حياتها سيدةَ قدَرها وتصرفاتها وتحركاتها، وخصوصًا قائدة في تيار المطالبة بتحرير العبيد وحق المرأَة في الاقتراع وتفتُّح المرأَة على العمل العام.

وعلى الرغم من معارضة أَولادها وأَحفادها نشاطَها خارج المنزل، بقيت جوليا على عنادها في تحقيق طموحاتها وفي تحفيز المرأَة على التحرر من قيود الزوجية حين هذه تعيقها عن تنمية شخصيتها.

 منذ 1916 صدرت كتب عدة عن سيرة جوليا، لكن قليلًا منها اعتبر جوليا بطلة أَميركية رائدة. ربما لأَن مؤلفيها هم كذلك متخلفون غارقون في تقييد المرأَة بـحياة بيتية زوجية سجْنية تجعل المرأَة تابعة خاضعة لا قائدة رائدة.

زر الذهاب إلى الأعلى