بأقلامنا

مروان عبد العال.. حارس السردية الفلسطينية بقلم غسان أبو نجم

جمعتني به ندوة رقمية عقدها رفاقنا في المغرب ومقالة له على صفحات جريدة الأخبار اللبنانية، حول اغتيال الزمن المقبل علقت عليها بمقالة في مجلة الهدف والميادين. سألني حينها: ما رأيك؟ أجبته بجملة واحدة (إنك تستفز العقل). إنه مروان عبد العال الروائي التشكيلي والسياسي ابن عكا وقرية الغابسية أو وادي المجنونه كما يحلو له تسميتها، حفيد صانع الأسلحة طفل الزينكو في مخيم نهر البارد وصديق الشيخ الضرير المثقف الذي راكم المعرفة لديه.

حلق منذ صغره بجناحين نفتقدهما في حاضرنا المؤلم الثقافة والبندقية، وجال بهما متعلمًا، بين فرانز فانون، الذي أدرك مبكرًا أن الجبهة الثقافية ضمانة الخلاص من الاستعمار و غسان كنفاني الذي امتشق الفكر والبندقية معًا؛ ليدرك مبكرًا أن الوعي والبندقية هما طريق الانتصار

سكنه المخيم (الوطن المنفى) الذي يرتبط (بالوطن الأم) برابط عصي على الانفكاك أو التغيب؛ إنها مساحة عجز الاحتلال عن فرض قوته عليها؛ إنها السردية الفلسطينية التي حصنت نفسها بثالوث مقدس الذاكرة والوعي والبندقية التي تعبد طريق العودة نحو الوطن الأم.

كما شكل المخيم بكل تركيبته والإسقاط الجغرافي على حاراته التي حملت أسماء المدن الفلسطينية عنوان للذاكرة وكانت الجبهة الثقافية همه الأكبر وتحصينها وهندسة الوعي داخله،ا ضمن منظومة معمارية، شكلت السردية الفلسطينية عمادها الأساس؛ هاجسه الدائم. فمن رواية سفر أيوب التي نظمت اللجوء بطريقة شعرية، تبعها زهرة الطين التي كثفت الحكاية، مرورًا بسلبية إيفان الفلسطيني واغتيال المخيم، كما في حاسة هاربة وتحديد مكان الحلم والعشق في رواية جفرا، والتضحية بالحياة العاطفية في رواية ٦٠ مليون زهرة؛ لتتوج ببريق الأمل في رواية الزعتر الأخير وأن فلسطين هي أكسجين الحياة، كما في رواية أوكسجين.

ولعل رواية أوكسجين التي تجلى فيها رؤية الروائي للمخيم، رغم أن أحداثها على أرض مدينة تونسية إلا أنك تلمس مخيمًا خمسة نجوم، وأن الفلسطيني مهما تبدلت به المواقع بكل تفاصيلها لن يجد بديلًا عن أوكسجين أو فلسطين وكلاهما واحد. وتظهر مدى تطور فن العمارة الثقافية في أسلوب عبد العال وتتلمس نيكولاس كزنتزاكيس وغارسيا ماركيز في طيات الرواية.

ما يثير الاهتمام في العديد من روايات مروان عبد العال هو عدم شعورك بالاطمئنان لبطل الرواية فايفان شخصية سلبية، غير قادر على تغيير اسمه أو نفسه أو هويته ويدفعك إلى حالة من القرف والغثيان وأنت تراقب بطل الزعتر الأخير مما يضعك في حالة من الاستفزاز العقلي أو أنك تجد نفسك أمام مثقف استفزازي يستفز العقل بطريقة ناعمة تتسلل في شرايينه.

إنه يرسم بطلًا كي تكرهه ويرسم عدوا كما في ضد الشنفري أمضى سنين خدمته في مراقبة عدوه وهذه سردية أعتقد أنها غير مسبوقة. ولأن مروان عبد العال لم يكن روائيًا فقط بل فنانًا تشكيليًا منذ الصغر؛ مكتسبًا هذه الملكة من والده، فقد عمد إلى رسم غلافات كل رواياته ليتناسب شكل الرواية مع مضمونها وتعدى نشاطه التشكيلي حد رواياته؛ ليشارك في العديد من المعارض المحلية والدولية.

ولعل ما يميز عبد العال إدراكه العميق للعلاقة الجدلية بين الوعي والممارسة وامتلاكه أدوات التحليل المنهجية، التي فككت مركبات الواقع وأعادت صياغتها برؤية أكثر دقةً ووعيًا؛ فالمخيم بالنسبة له ليس بقعة جغرافية فقط، بل وحدة اقتصادية اجتماعية تربطها سردية تاريخية؛ تحافظ بها على خصوصية هذه البقعة، من حيث الارتباط المؤقت بجغرافيتها والارتباط الدائم والتاريخي بالوطن الأم؛ يربط بينهما شلال عظيم من الذكريات شكلت سردية تاريخية تعجز كل أسلحة الدمار عن قتلها أو إبادتها.

من هنا يتضح عمق العلاقة بين مروان عبد العال والعظيم غسان كنفاني الذي اختط وبمنهجية علمية ورؤية واضحة طريقه السياسي؛ مدركًا العلاقة بين الوعي والذاكرة والبندقية؛ متمردًا على التابوهات الجاهزة والقبائل الحزبية ويصيغ رؤية ثورية للعمل السياسي على قاعدة من الوعي النظري والممارسة العملية تستشرف الزمن المقبل، وأن الحزب الثوري يستند إلى نظرية ثورية يرسي دعائمها الوعي الثوري المتجدد؛ مكملًا طريقه في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يشغل عضوية المكتب السياسي فيها؛ مسجلًا بذلك قيمة ثورية يحاول البعض طمسها بأن العمل الحزبي يقتل الإبداع وهذا ما دحضه عمليًا عبد العال وقبله الشهيد غسان كنفاني.

 وعلى خطى غسان سار عبد العال في استكمال ما طمحت إليه الكنفانيه كرؤية ونهج، عبر الحفاظ المستميت على سردية هذا الشعب وذاكرته التاريخية واستشراف المستقبل الفلسطيني، عبر الوعي المسبق للزمن القادم والتسلح بالثالوث المقدس الوعي والذاكرة والبندقية.

زر الذهاب إلى الأعلى