بأقلامنا

للعيون في حدقات وجهك يا شيخ حاتم يا ذهب الكلام وذهب الصمت بقلم المهندس الحاج علي إسماعيل

 

منذ عقد ونيف من السنين هجرت المنبر راثيا ومقدماً بناءً لتوجيهك، ومنذ عام حين وافت المنية والدتي الحبيبة، ترجّل الشيخ حاتم من سيارته حاملاً مرضه وألمه، بادرته قائلاً وهل تقوى للصلاة على جثمانها وأنت بهذه الحالة؟ أجاب هذه أم الكل

واليوم أستميحك بأن أسقط كل الإعتبارات التنظيمية والشخصية وأعود اليه. لأنك أب الكل وشيخ الكل

قد يسأل البعض من المتكلم أو يحسبني أبالغ حين أبكيك وأنا أرثيك، كنت كأبي الي دائمَ المناداة يا علي، ترى أين ذهب صوتك؟

للعيون في حدقات وجهك يا شيخ حاتم يا ذهب الكلام وذهب الصمت، أيها الزرع والحصاد وبيادر الذهب.

لقمر دمك الذي يطلع من خلف الجهات، ويفتح خزانة العلم والإيمان، على البشر والشجر والحجر،

لمقعدك المميز حيث يستند عامود الحسينية إليك، لصدى صوتك الذي يسكن أرجاء الحسينية فلا يتوقف عن الشجو والإصداح من على هذا المنبر ببسم الله الرحمن الرحيم.

لأنامل يديك التي تداعب حبيبات السبحة وأنت تراقب الوقت

زرعنا شجرة جديدة للحزن.

أيها السادة مساء 29 كانون الثاني فتح القرآن صفحاته لختمية جديدة ، وأطلقت الوالدة المرحومة أم حاتم، العنان لشوقها الدفين، فاستعادت الآخرة ما استعارته الدنيا منها أمانة الشيخ حاتم لستين ونيف من السنين فأصبح الأحد نهاراً عائلياً حزيناً، يلبس فيه الشيخ حاتم ثوب الفراق الذي تمناه طويلاً واستمع لدعاءٍ خافت من والدته، في ذكراها السنوية، لقد اشتقت إليك، فيمتطي فرس الموت ليكسو الوجوه حزناً وألماً ومرارة فتأخذهم الآحاد تباعاً.. أم حاتم، سفانة، بثينة، خديجة ويؤمهم جميعاً إمامهم الشيخ حاتم ،لأن أمنيته في الحياة أن لا يتجاوز عمره عمر النبي 63 عاماً.

مساء 29 كانون الثاني كانت أرض دير قانون غيرها في كل الأيام، كانت تكشف عن رحمها لتستقبل حبيبها العائد اليها، الى رحاب الله تعالى، كانت المهج والأفئدة والمقل لذؤف الدمع، ليتولد مكانه العزم، وليتجدد العهد على العطاء والوفاء.

كانت الناس تغادر البيوت، لتصطف على الطرقات لترمي الحبيب العائد بنظرة مكسورة وحرقة مكتومة تتفاعل في الصدور، كان الشيخ حاتم معهم في هاتيك اللحظات.

صبيحة 30 كانون الثاني نهار الأحد أيقظ العلماء الصبح على صلاتهم، لكنهم لم يتوجهوا نحو الحوزة، استأذنوها ليواكبوا الشيخ، والطلاب هجروا مقاعدهم واتجهوا بسواعدهم نحو النعش ليرفعوه عالياً نحو السماء.

فسمعنا سيداً يقول لو أني اسأل ولو أنك كنت تجيب،

لو أنني استطعت العبور اليك، وكنت قريباً من همس شفاهك وخفق قلبك، لو أني قلمك ومحبرتك ودفتر رسائلك وسمعنا شيخاً يقول لو أنني في هدأة الليل طرقت بابك، لو أني استطعت الى ذلك سبيلاً، لو أنك دعوتني الى الدخول، لكنت سلمت وجلست بين يديك، وفتحت قلبي على اسرار اسئلة مكنونة لا تنتهي، وسجلت سنوات تعبك وتفاصيل معاناتك في كتاب التجربة.

وسمعنا طالب علم غير معمم يقول لو أني وصلت إليك ولمست أطراف ثوبك وقبلن يديك لكنت تزودت بالذكرى، لم نكُ ندري أننا كنا كالنحل نمتص رحيق حياتك وزهرة عمرك؟

ونحن من محبيك وأبناء بلدتك نقول: لو أننا استودعناك في قلوبنا، لو أننا أغلقنا عليك رتاج حجابنا الحاجب، لو أننا أوصدنا قفصنا الصدري دون ملاك الموت ، لو فعلنا كل ذلك ، لما منعنا ملاك الموت من قطاف سنبلة روحك.

لو أن العناكب حاكت على نولها  منزلاً على مدخل الغار لتحميك، لجاءك الموت ولو كنت في بروج مشيدة، فكيف وأنت لم تكن تريد رد مشيئة الله، بل انك كنت لاتخاف ان وقعت على الموت أم وقع عليك.

 

فيا أبانا ويا شيخنا ويا حبيبنا

ها انت ذا تمضي وليت ذاك الليل أطبق سرمدا علينا ، فلا طلع الصبح ولا جاءنا خبر نزوحك الى دار البقاء، ولكن للساعة حفها وللكواكب ميقاتها، وقد امسينا على الخبر..

أيها الصامت بجواهر الكلام

أيها الهادئ سرك الحركة

من أين جئت وكيف جمعت آلاف الحكم في خيط عباءتك

سؤال من القلب الى القلب

 

هل نطمئن بعدك وهل انت مطمئن الى ما بعدك ،وأنت جمعت قلقنا في خفق قلبك فأثقبناه وأرهقناه فمضى ليرتاح،

 

ترى أين نستودع أسرارنا.

 

في ذكرى وفاة المرحومة سفانة شقيقة الشيخ حاتم ذكرت.. تحضرني صورتان واحدة للسؤال وأخرى للجواب، الأولى حين غادرتنا الحاجة أم حاتم المرأة الصابرة المؤمنة الحريصة وفي آخر أيام حياتها تقول سأقبل مطمئنة على ربٍ غفور ولكن يساورني القلق على البنات سفانة ، بثينة واخواتهما فيختصر القلق الصورة الثانية صورة الجواب.

ها نحن نأتي الى الشيخ أيام الحرب وهو لم يغادرنا، وقد تسلل اليأس الى جزءٍ منا، فنجد قوة الإرادة لديه أقوى من قوة المواجهة لدينا، فنلقاه واضعاً عمامته على رأسه عائداً، نسأله أين كنت ،يجيب اطمئن على أمانة الوالدة سفانة بثينة واخوتهما.

لا تقلقي أيتها الحاجة الصابرة ، لا بل أزيدك دون محاباة، ولا تزلف، وبعيداً عن صلة القربى ولكن اعترافاً بحقيقة ،قري عيناً وتربعي في عليائك، فلقد تركت لنا شيخاً نؤذيه فيُحسن الينا، نتهوربعيداً عنه فيزداد حرصاً علينا ، نزاحمه فيقدمنا على نفسه، يمتلك صبراً لا نفاد له، وإيماناً لا نعرف مداه، تُرى من أي الأطوار أنت أيها الشيخ ،لا بد أنه فيك من نقاء محمد (ص) واخلاص علي (ع) وحرص أبو طالب وايثار الحسين (ع) وأنا أدعو نفسي أولاً واخواني في البلدة ثانياً أن نكون تلامذة في مدرسة استاذها الشيخ حاتم.

واليوم أقول.. يا شيخنا..

نبكي عليك وأنت تمضي الى راحة نفسك وقد بلغت، اللهم اننا نشهد انه قد بلغ وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ،ما للرايات السود نذرف دموعاً بيضاء، اهي لآلئ الاسلام، كنا نعتقد أن قربك الله يبقيك لنا وشاء ربي أن يقربك اليه فلحود المؤمنين مهود.

وأنت يا حاجة أم حاتم نخبرك أن ولدك الشيخ أعلم القمم في التعبد والتهجد والتمجد حتى لامس السماء فلم يعد من مسافة للتقرب من خالقه إلا أن يغمض عينيه على الدنيا ففعل ،وهو في أعلى عليين.

أمّا أنتِ والدتي الحبيبة ماذا أقول في ذكراك السنوية الأولى، فماذا يكتب وبما ينطق اللسان وكيف تنطلق الكلمات معبرة عما يجول في الخاطر، أسئلة تقف حائرة أمام براكين الشوق الملتهبة، عاجزة عن أن تعبر عما يعتمر في الداخل، وهذا شأن الكلمات معي فهي تأبى أن توفي القرابة حقها فالمحبة واجبها وهكذا كنت عاجزاً.

لقد وقفت الأنامل مرتجفة من شدة الشوق ،وسكت اللسان جباناً قد غلبه الحنين، وانفجر القلم باكياً يملأ القرطاس بدموعه، لكنه لا يعلم ماذا يسطّر، لا يعلم ماذا بعدما غلبه البعد قأخذ ينضح بعبارات طالما خذلتني قلم استطع أن أتركها ليكلم القلب فؤاده وهذا صديق القلب.

شيخ. حاتم

أربعون اشراقة ..

أربعون اغفاءة شمس، ليل ونهار يركضان في سبق العمر نحو مستقرالروح ،يتعاقبان كتعاقب الليل والنهار، ونحن في طوافنا حول اسمك ورسمك نحاول أن نملأ فراغ رحيلك بالإحتشاد في ساحاتك.

المسؤول التنظيمي لإقليم جبل عامل لحركة أمل

 

في ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيل فقيد العلم والحوزة العلمية سماحة العلامة الجليل  الشيخ حاتم إسماعيل

زر الذهاب إلى الأعلى