بأقلامنا

الحرب… عنفٌ في علاقة الحق والقوة بقلم الكاتب الدكتور حسين صفي الدين

الحرب… عنفٌ في علاقة الحق والقوة

  • 0

 

 

القسوة ليست العنف بعد، والغضب حال من أحواله. أمّا الإرهاب فهو دفع للعنف إلى حدوده القصوى. فإن كان العنف فعل أذيّة موجّه ضد شخص الغير، أو هو مسلّط على شخصنا من قبل الغير، فهو إذاً فعل قصدي. والإرهاب في هذه الحالة هو فعل قصدي وله أغراض. وغالباً محاولة قلب موازين القوى لفرض إرادة ما (سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية). ونقاش الإرهاب في زمننا المعاصر، يأخذ حيّزاً لا بأس به من النقاش والدراسات، وقد حاز على تعريفات عدة ومتنوعة، كان القاسم المشترك فيها أو بالأحرى كان جوهرها العنف.

يرى براين هيكنز أن «الإرهاب هو استعمال القوة العنيفة، أو استخدام قوة التهديد بهدف التغيير السياسي». أمّا ووكر ليكر، فيعتبر أن «الإرهاب هو قوننة الاستعمال غير الشرعي للعنف ضد المدنيين من أجل تحقيق هدف سياسي». وآخر يحدّد الإرهاب على أنّه «القتل المدبّر والمتعمّد والمنظّم والعنيف ضد الأبرياء، لخلق الخوف والرعب، للحصول على مكتسبات سياسية». وتعريفات أخرى تعتبر الإرهاب «استخداماً غير قانوني للعنف ضد الأشخاص والممتلكات، لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية، ولبث الرعب وابتزاز الحكومات والأشخاص والمجموعات، بهدف تغيير نمط تعامل أو سياسات».

ad

ad
(أنجل بوليغان)

إن هذا العنف الذي يرتكز عليه مفهوم العنف، وفي تاريخيته، ترافق مع الحياة البشرية منذ نشأتها. واتخذ أشكالاً متنوعة ودوافع متعددة ووسائل مختلفة. فالإنسان يتكون في ظل نوعين من الغرائز؛ غرائز تسعى إلى الحفظ والتوحيد، وأخرى للتدمير والقتل. وهي غرائز العدوانية أو التدميرية، وظواهر الحياة تنشأ من عمل النوعين، وفي تنسيق بينهما أو في شكل متعارض. وكقاعدة لجعل فعل ما ممكناً، لا بد من وجود رابطة بين هذه الدوافع المركبة.
يقول سيغموند فرويد في كتابه «أفكار لأزمنة الحرب والموت»: «عندما يتم تحريض البشر على الحرب مثلاً، قد يكون لديهم عدد كبير من الدوافع للتصديق. بعضها نبيل وبعضها وضيع، بعضها معلن وبعضها مضمر. ولكن شهوة التدمير دائماً ضرورية لاكتمال الفعل». ويقول ليختبرغ في النسق ذاته: «إن المذابح التي كانت ترتكب في الحروب تؤدي إلى الاعتقاد أن الدوافع المثالية هي مجرد ذريعة للشهوات التدميرية». فسلوك العنف برأينا هو أكثر انتماء لرد الفعل الطبيعي. فهو ينتج من الغضب. فالغضب بالضرورة رد فعل تلقائي إزاء البؤس والألم. ولكن في أحيان كثيرة، يبرز الغضب حيث تكون هناك احتمالات حدوث تبديل في الأوضاع، ويُنتِج إغراءً كبيراً بضرورة اللجوء إلى العنف بسبب ميزته كعمل مباشر، سريع، ومضاعف لقدرات التأثير. ففاعلية العنف لا تعتمد على العدد، وهذا من السمات الجذابة للعنف. ويبدو أن هذا ما أسهم في الدفع نحو تبني العنف من قبل أفراد وجماعات كوسيلة مؤثرة وفعالة في حل نزاعاتهم وفي مضاعفة قدراتهم على الفعل والتأثير.

ad

ولكن عن أي عنف نتحدّث؟ عنف السلاح والحروب؟ أم العنف الاقتصادي حيث التجويع ونشر الأمراض، والمهانة والقهر، ونشر البؤس والألم سلاحاً لإماتة الروح في الإنسان وإماتة كرامته؟ عنف الدولة، أم عنف الجماعات والأفراد؟
إن صراعات المصالح بين الناس تسوّى باستخدام العنف. فتحدث بلا شك صراعات في الرأي وصراعات مصالح تسوى باستخدام العنف. حيث كانت القوة العضلية الأكثر تفوّقاً هي التي تقرر من يمتلك الأشياء. وإرادة من هي التي تسود. وسريعاً ما أضيفت إلى القوة الجسدية، الأدوات. فالفائز هو من يملك أسلحة أفضل ومن يستخدمها بطريقة أمهر.
ومن اللحظة التي أدخلت فيها الأسلحة، بدأ التفوق العقلي فعلاً يحل محل القوة الغاشمة، واتخذ العنف أشكالاً متنوعة بلغت حد التجريد (مثال: الحربان العالميتان). وفي المرحلة الراهنة، وبعد أن كانت الحرب بهدف السيطرة الاقتصادية في ظل الدولة الاستعمارية (مرحلة الرأسمالية الكولونيالية)، وتقاسم الأسواق العالمية، فإن الاقتصاد بات بحدّ ذاته سلاحاً مؤثراً وحاسماً إلى جانب الحروب. ويبدو أنّه السلاح الأمضى للرأسمالية المهيمنة على مرافق الاقتصاد البشري برمّته، حيث تستباح البيئة وخيراتها، والأرض وكل مصادر الطاقة التي تختزنها، وكل التطور العلمي والصناعي لمصادرة إرادة الشعوب، وجعلها على هامش حركة التاريخ والتطور. كل ذلك لمصلحة حفنة لا تتعدى نسبتها الـ 4 بالمئة من الرأسماليين الجشعين.
إن الانقسام والتناقض في المصالح والمعتقدات يؤدي إلى الشعور بالريبة والقهر عند طرف ضد آخر. وهذه الفروقات والمشاعر لا يختصرها إلا الحِلم أو العنف. غير أن الحِلم برأينا يقتضي من الإنسان درجة عالية من ضبط النفس، وتحكم الذكاء. في مواجهة المشكلات والمواقف الإنسانية الصعبة. مما لا يتاح لكل الناس حيناً، أو مما لا يرضى به طرف من أطراف النزاع حيناً آخر. وغالباً الطرف القابض على زمام القوة الاجتماعية. فلا يبقى أمام الطرف الآخر إلاَّ العنف خياراً.

ad

ولكن ماذا عن المقدّس، في حالتين: المقدّس الديني والمقدّس الوضعي، حيث المقدّس منفصل أو منعزل عن الاستعمال العادي. يقول رينيه جيرار: «إن العنف هو روح المقدّس المحيي. فلا مقدّس من دون عنف يشكّل قلبه النابض». وفي الحقيقة، إن طبيعة المقدس ترتكز على امتلاك حصري للحقائق المطلقة. وتنفي أي جزئية للحقيقة موجودة خارج بنيتها الفكرية، لاهوتية كانت أم أيديولوجية.
ومن ناحية ثانية، لا تتوقف عند حدود وعيها هي، ومساحة تأثيرها المحددة. فتنطلق من مسلّم لديها. بضرورة فرضها على المجتمعات كافة الخاصة والعامة، أي البشرية برمتها، مع ما يحمل ذلك من شروط الفرض، عنف فكري وجسدي ونفسيّ، وكذلك مع ما يحمل من ردود فعل عند الآخر، الذي بدوره حامل لمقدّس مختلف خاص به، أو حامل لإرادة حرة مستقلة. وهذا المقدّس يستمر كعامل مسبب للعنف مع تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات المعاصرة. ففي زمن علاقات الإنتاج الإقطاعية سادت الأيديولوجيا الدينية كسلطة تفرض إرادتها عبر المقدس اللاهوتي. والدولة البرجوازية الناشئة على أنقاض المجتمع الإقطاعي استبدلت المقدّس الديني بالمقدّس الوضعي (الاحتكار الشرعي للعنف).
فنقد الفكر الديني الذي أنشأ الدولة الحديثة، باعتبارها محتكرة للعنف المشروع لم يشكّل قطيعة معرفية (إبستمولوجية) مع البادرة الدينية، بل كان مجرد استبدال وتحويل لعناصر البنية نفسها. ونحن نعتقد أن الفكر الحديث له دوره في هذه الفوضى التي تعمّ المجتمع البشري، وانغلاق دائرة العنف التي يتحرك فيها. فالفكر الحديث. وبعد أن أمعن في نقض الميتولوجيا الدينية، ليُحِلَّ محلها روح الـ«إنسية» تابع بنقض الميتافيزيقا العقلانية، وهزّأ الميتافيزيقا الأخلاقية، وصولاً إلى إعلان موت الإنسان، بعد أن أعلن موت الله. وكان عصر العلوم الوضعية، فكان القرن العشرين القرن الأكثر عنفاً في التاريخ البشري وأكثرها دموية.

ad

الأيديولوجيا العقلانية التي عمّمت عبر «التجريد» هيمنة الطبقة البرجوازية وقدّست سلطتها، وبرّرت شرعية عنفها، ولّدت في ما ولّدته أيديولوجيا الضد لها، وعنفاً موازياً هو «العنف الثوري»

فما أُسِّس على مستوى الدولة الوطنية من شرعية احتكار العنف، راح ليعمّ العالم بأسره. ويقبل هذا الفكر قوة الردع العنيفة المنحصرة في القوة المهيمنة في العالم، مترافقاً مع رفض كل ميتافيزيقا أخلاقية أي قائمة على قوة الردع الموجبة وآخرين يستمرون في رفض كل ميتافيزيقا منتظرين الخلاص بعودة الله، بحسب تعبير هايدغير.
الأيديولوجيا شكّلت منذ الجزء الأخير من القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر والعشرين مرجعية للعنف الذي ساد منذ الثورة الفرنسية 1789 وكومونة باريس 1870 والثورة البلشفية في روسيا 1917. إن الأيديولوجيا في مضمونها تحفّز هذا الفعل كونها تطرح تصورات المستقبل بتجاوز لما هو قائم من خلال إدانة الحاضر، باسم المستقبل المتخيّل المثالي، عبر خلق أوهام وتصورات تؤثر في الفكر، وتجعله يرى الأشياء طبقاً لمنطقها، لا طبقاً لمنطق الأشياء ذاتها، في راهنية واقعها. فهي، وإن كان لها تعبيرات ثورية في مرحلة ما، فستقع في الوعي الزائف لاحقاً. ولكن بعد اكتمال الفعل العنفي، أو في ظل تحقّقه، ضمن محاولة كل تشكيلة اجتماعية تصميم تصورها الجديد للعالم، وفي هذه العملية تنقض أي سلطة لا تستوي مع أساس مبادئها.

ad

ماذا عن الحتميات التي فرضت نفسها وشكّلت مبرراً للعنف، والتي بدأت مع هيغل؟ حتمية انتهاء التاريخ. «الآن انتهى التاريخ وانتصرت قيم الحرية والمساواة والإخاء»، في جملة فهمت كتبرير للحروب النابوليونية في أوائل القرن التاسع عشر. وهذه الحتمية ذاتها استعادها فوكوياما ليعلن موت التاريخ مرة جديدة مع انتصار الليبرالية الجديدة، وما رافق هذا الإعلان من حروب في كل بقاع الأرض، وعنف وإرهاب قضَّ مضاجع شعوب بأسرها، وضحاياها لم تضمد جراحها حتى اليوم. ماذا عن الحتمية الماركسية التي شكلت دافعاً ومسرِّعاً لعنف ثوري، شكّل هوية سياسية للقرن المنصرم. فطوّع مفهومها ونظّم آلياتها لينين؟ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: أليس للعنف هويته الطبقية؟ إن الانقسام بالمصالح الطبقية والصراع من أجلها، ألا يولّد عنفاً في حدوده القصوى؟
في حقيقة الأمر، إن الأيديولوجيا العقلانية التي عمّمت عبر «التجريد» هيمنة الطبقة البرجوازية وقدّست سلطتها، وبرّرت شرعية عنفها، ولّدت في ما ولّدته أيديولوجيا الضد لها، وعنفاً موازياً هو «العنف الثوري». ودام هذا العنف لعقود في ظل القهر الطبقي وقهر الرأسمالية الكولونيالية لشعوب البلدان الأقل قوة، وحيث كانت هناك ثروات طبيعية ومصادر للطاقة. وشكل من أشكال هذا العنف كان سمة من سمات انتفاضات وثورات شهدها التاريخ، من ثورة العبيد في العهد الروماني (سبارتاكوس)، إلى ثورة الزنج في البصرة، في ظل الحكم الإسلامي، إلى الثورات الفلاحية التي عمّت الممالك الإقطاعية في أوروبا على مرّ قرون عدة. ولكن هذه التشكيلات والصراعات، وإذا كانت كرتنا الأرضية قد تسلّمتها الرأسمالية وبعد آلاف السنين بعنف ضد البشر، الذي كانت ضحية الحروب والأمراض والعوامل الطبيعية، فما الذي حصل في المئتي سنة المنصرمة، في ظلّ جشع الرأسمالية المتوحشة، وأدوات الدمار التي تمتلكها، على مستوى تدمير الطبيعة ذاتها، وعلى مستوى الأسلحة المضاعفة للقوة التدميرية القاتلة، هل أحسن الإنسان إدارة شأنه؟

ad

والبرجوازية التي لعبت دوراً ثورياً في انتصارها على العلاقات الإقطاعية-الملكية، وفي تبنّيها للثورة العلمية-الصناعية، والانفتاح على الأفكار الجديدة، وأمام تعمّق أزمتها، سرعان ما راحت ترتد إلى مواقع أكثر رجعيّة. واستخدامها الأدوات القديمة لتبرير سيطرتها، والتملّص من استحقاقات أزمتها. فعادت لاستخدام الدين الذي حاربته وإلى تفكيك دور الدولة التي أسستها، وحوّلتها من دولة لها مؤسساتها الراعية للمجتمع، والمنظِّمة له، إلى دولة معطّلة الدور. وإطلاق العنان لرأس المال وأصحابه في جشعهم اللامحدود. وأضحت الدولة المفرغة من مضمونها الإنساني والقانوني، خادمة لهذه المصالح.
وإذا كانت الدولة أضحت محدودة الدور في دول المركز، فإنها منعدمة الدور في دول الأطراف، حيث السلطات السياسية تنفّذ أوامر المؤسسات الرأسمالية القابضة على مصائر بلدانها. فهي نقلت أزماتها عبر العنف (الإرهاب) الكولونيالي إلى دول العالم الثالث، وأجّلت بذلك استحقاقات كبيرة في داخل مجتمعها. ترافق ذلك مع تدمير ممنهج ومنظّم للبشر كما للطبيعة وثرواتها، وبيئتها التي باتت تهدّد مصير الكرة الأرضية. وافتعلت حروباً عدوانية تحت شعار مصالحها القومية، وساد الإرهاب والعنف وإهانة الكرامة الإنسانية. فبتنا نعيش في ظلّ فكر برجوازيّ منحطّ، وسياسة فساد معمّمة عبر العولمة الليبرالية، وشعار محاربة الإرهاب لشرعنة إرهابها الأصلي ولتسويغ حروبها.
بعيداً من الشهوات التدميرية، فغرائز الغذاء والتكاثر و السيطرة مشكلة في دماغنا منذ الآف السنيين، وهذا الدماغ وفي عملية تطوره و عبر الاصطفاء الطبيعي أنتج القشرة الجديدة Neocortex حيث النشاط الذهني، وهذا النشاط في آلية عمل القشرة الجديدة يشكل كابحاً للغرائز ويدير فعلها. في حين إن الغرائز تشكّل شرطاً ضرورياً للحياة والبقاء، فإن كبح جماحها وتنظيميها يبقى متفاوت الدرجات عند البشر، حيث يختل هذا التوازن في الاتجاهين الشيطاني والإلهي. وإذا ما اختل التوازن لمصلحة الغرائز التدميرية يتحوّل دور القشرة الجديدة من الكبح إلى إدارة هذا الفعل الغرائزي لتنظيم أدائه.

ad

وعليه، ففي زمن سيطرة الرأسمالية، وفي حالة الحروب التي تُطلقها، ترفع الشعارات النبيلة لتحجب جوهرها الذي هو السيطرة وتلبية مصالح فرد ما أو مجموعة ما والقبض على الثروات من أجل خلق نمط جديد من العبودية. نرى اليوم أن الديموقراطيات لا يحكمها ديمقراطيون والليبرالية الجديدة تحكمها المصارف، حيث أصبحت الدول تقاد ليس عبر مؤسساتها الديموقراطية وإنما عبر الدولة العميقة، «الرأسمال المالي وتحالف الكارتيل الصناعي العسكري» – أحفاد الربويين الذين كانوا منبوذين حيث كان الربا يعتبر رذيلة حتى القرن السادس عشر لتهديده روح الإنسان وكرامته. وهذا الربوي نفسه وسلالته المستنسخة أصبح في صدارة قيادة العالم وابتكر أدوات جديدة للعنف، عنف يتسلل إلى الحياة اليومية للناس عبر النقد الذي أصبح قيداً وجعلته الرأسمالية غِلاً يقيد حياة الدول و البشر والحروب لحماية المصالح ولمنع أي محاولة لتحطيم هذه الأغلال.

* باحث

زر الذهاب إلى الأعلى