بأقلامنا

رئيس النّدوة الثّقافيّة الأمين ادمون ملحم

حالات الفقر والجوع والإذلال وكلّ المآسي الّتي يتعرّض لها شعبنا اليوم في لبنان وفي كلّ كيانات الأمّة، وبالرّغم من قساوتها، هي ليست حالات غريبة على هذا الشّعب الّذي جُرِّدَ من ماله ورزقه ولقمة عيشه وكرامته وتُرِكَ في العراء يئنّ ويتوجّع ويستغيث طالباً العون والمساعدة من دون طائل. فالويلات والأوجاع ترافق هذا الشّعب منذ زمن طويل ولا تبرح عنه. لعلّ تلك المآسي والمجاعة الظّالمة الّتي طالته آبان الحرب العالميّة الأولى في ظلّ الاحتلال العثمانيّ، وما بعدها، ما زالت في ذاكرته، وهي ما أدّت إلى موت الآلاف من البشر جوعاً واضطهاداً وإلى هجرة أعداد كبيرة من أبناء شعبنا إلى مجاهل الأرض بحثاً عن الرّزق والعمل لإحياء الأهل وإعلاء شأن الوطن… كما دفعت بالشّاب أنطون سعاده الّذي مرَّ بتجارب قاسية مع اشتداد المجاعة في جبل لبنان ليطرح على نفسه السّؤال التّالي: «ما الّذي جلب على شعبي هذا الويل»؟

سعاده تألّم نفسيّاً وحزنَ لما شاهد وشعرَ وذاقَ ممّا مُنِيَ به شعبه من مصائب وأسَى وشقاء وممّا قاساه من جوع وإذلال وآلام وأوجاع. فهو عايش المأساة التّاريخيّة الّتي «مثَّلَ فيها الجور دوره أيما تمثيل» – مأساة موجعة أبطالها أطفال لجأوا إلى المآوِي وشيوخ وعجائز وفتيان وعذارى ماتوا «أذلّ ميتة»، ماتوا من الجوع والشدّة، كما يقول جبران خليل جبران، «لأنّ الثّعبان الجهنّميّ قد التهم كلّ ما في حقولهم من المواشي، وما في أَهْرَائَهُم من الأقوات. ماتوا لأنّ الأفاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا السّموم في الفضاء الّذي كانت تملؤه أنفاس الأَرْزِ وعطور الورود واليَاسَمِيْن». وكما يقول سعاده: «أصبحوا بالمذلّة متسربلين وفي القبور المظلمة الرّهيبة ثاوين».

سعاده الفتى درسَ واقع أمّته الأليم – الأمّة المظلومة، المجزّأة إلى دويلات صغيرة والمفسّخة روحيّاً ومادّيّاً نتيجة استفحال الرّجعيّة الاجتماعيّة والسّياسيّة البغيضة وفساد تفكيرها الانحطاطيّ – الاستسلاميّ، ورفض أن يمضي حياته في همٍّ وشجنٍ وندبٍ سائراً مع القطعان البشريّة ومستسلماً لواقع أمّته المتعذِّبة والمغلوبة على أمرها. رفضَ أن يستكين في ظلالِ الصّمت والطّمأنينة، وخمولِ السّلامة والتّردّد والكسل منشغلاً بتوافه الحياة وصغائرها، وقرّرَ أن يلبّي نداء الوجدان والواجب القوميّ. قرّرَ أن يفعل شيئاً ما لينقذ شعبه من معضلاته وأن يكتشف «الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب الويل».

وبتفكيره الرّاقيّ باشرَ سعاده بالبحث والتّنقيب مدفوعاً بحبّ كبير لوطنه وأهله وبإرادة عظيمة بالنّجاح في «تخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمّة بأسرها».

ووجدَ سعاده الحلّ الإنقاذيّ بمشروع النّهضة القوميّة الاجتماعيّة الّتي تعيّن الإتّجاه والغاية وتخرّجنا من التّخبّط في وحول الطّائفيّة وقضايا المصالح الخصوصيّة القبليّة والعائليّة وتجمّع الشّعب حول قضيّة كلّيّة «فيها كلّ الخير وكلّ الحقّ وكلّ الجمال».

وأرسى سعاده نهضته على نظام بديع من الأفكار والقواعد المتوهّجة والمكوّنة لفلسفة كاملة، عميقة، معبّرة عن آمال أمّته وأحلام بني قومه ومستهدفة النّهوض بالأمّة من قبرها في التّاريخ ودفعها للسير على طريق التّقدّم والإرتقاء ليكون لها حياة «أرقى وأفضل وأجمل».

وبتفكيره العقلانيّ المرتكز على ثقافة واسعة، أوجدَ سعاده المؤسّسات القوميّة الصّالحة لتحقيق مشروعه النّهضويّ، وراحَ ينشد الخروج من الواقع المرير ليبني مستقبلاً جميلاً للأمّة منطلقاً من رؤيته المستقبليّة الهادفة لتحقيق حياة أجود في عالم إنسانيّ أجمل تسوده أجمل وأسمى القيم.

ونذرَ سعاده حياته من أجل القضيّة المقدّسة رافضاً المغريات ومتنازلاً عن المنافع المادّيّة الّتي كان بإمكانه أن ينالها، فلم يكن همّه في أيّ وقت من الأوقات منفعة شخصيّة أو الحصول على منصب ما، بل كان هاجسه ‏الدّائم والوحيد خدمة أمّته والنّهوض بها، وكان ‏يحدوه الأمل بأنّه إذا تحقّق الوعي القوميّ في مجتمعه سيجلب لأمّته ولأجيالها الخير والسّعادة والمجد والفلاح.

هذا الرّجل ذي النّفس العظيمة المترعة بالآمال الكبيرة كرّسَ حياته لنهضة الأمّة ولتحقيق حياتها الجديدة زارعاً الإيمان واليقين والأمل والفضائل في النّفوس وواعداً بتحقيق الطّموحات الكبيرة والأماني العظيمة والحياة الجميلة الممتلئة حبّاً ونوراً وجمالاً. ومشى سعاده في الحقّ جاهراً ومعلّماً ومدافعاً عن حقوق أمّتِهِ وحرّيّتِها وسيادتها على نفسها ومحتقراً الّذينَ تخلّوا عن طريقِ الحرّيّةِ والصّراعِ واختارُوا طريقَ العبوديّةِ والعيشَ الذّليل.

سعاده المعلّم – القدوة رأى أنّ أمل الأمّة بإصلاح شؤونها النّفسيّة والاجتماعيّة والمادّيّة منوط بالعناصر القوميّة المجدِّدة – بالطلّاب، الّذين «يكونون دائماً نقطة انطلاق وارتكاز في العمل القوميّ الاجتماعيّ» وبالطّبقة المتنوّرة في الوطن والمهجر، وبالصّحافة الرّاقية الّتي تقع عليها مسؤوليّة كبرى في خدمة التّنوير الفكريّ وفي تنمية القوّة الفكريّة في الأمّة لأنّ «الفكر هو قوّة غير محدودة» وأيّ إهمال لهذا الشّأن، سيؤدّي إلى «ضلال بعيد وانحطاط مديد».

ولكن هل يمكن تحقيق التّنوير الفكريّ بدون التّربية الخلاّقة وحرّيّة الفكر والتّعليم وبناء الطّاقات البشريّة والعلميّة القادرة على إحداث تغيير في المجتمع؟
هل يمكن تحقيق التّنوير الفكريّ بدون فعاليّة العقل وبناء الشّخصيّة الاجتماعيّة الواعية والعقول المبدعة القادرة على تبديّد الظّلمات وتذليّل الصّعاب؟
لقد آمن سعاده بأهمّيّة العقل الّذي هو جوهر الحياة الإنسانيّة وميزة الإنسان الأساسيّة والتّفسير الكبير والصّحيح لوجوده. فالعقل، برأيه، هو «الشّرع الأعلى والشّرع الأساسيّ هو موهبة الإنسان العليا. هو التّميّيز في الحياة». فإذا «تلاشت ميزة الإنسان الأساسيّة» وعطّلنا الفكر والعقل، يقول سعاده: «عطّلنا الإرادة، عطّلنا التّميّيز وأنزلنا قيمة الإنسان إلى قيمة الحيوان».

وسعاده بنى نظامه الفكريّ على مناهج العلم وحقائقه وحثَّ على «محاربة التّدجيل العلميّ والتّدجيل الدّينيّ والإستهزاء بالتّعاليم على الإطلاق». ودعا إلى معالجة قضايا الأمّة بالعقل والعلم الصّحيح والمعرفة اليقينيّة البنّاءة، المرتكزة على الحقائق الموضحة لا الأوهام السّقيمة، من أجل تغيير المجتمع وتطويره.

وفي حركته القوميّة الاجتماعيّة الاصلاحيّة الّتي اعتبرها «حركة تجديديّة في المناقب والأخلاق»، زوّدَ سعاده تلاميذه بالتّعاليم المناقبيّة ليصارعوا بها الرّذائل والأمراض النّفسيّة والمثالب الفاسدة المتفشّية في المجتمع نتيجة خضوعنا لعصور التّقهقر والانحطاط، وقال: «إنّ نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في ‏الحياة قبل كلّ شيء آخر».

والحقّ يقول أنّ التّعاليم المناقبيّة الّتي جاء بها سعاده رمّت لبناء مجتمع أمثل قائم على المحبّة القوميّة والوحدة الرّوحيّة والاجتماعيّة وخال من كلّ أشكال التّفرقة والعصبيّات والانقسامات. هذه التّعاليم أحيت في النّفوس الإيمان والأمل والرّجاء والرّغبات السّامية وزرعت فيها حبّاً نقيّاً صادقاً يولّد الهمم والعزائم الصّحيحة ويحرّر النّفوس من عبوديّة «النّزعة الفرديّة» القبيحة وخصوصيّاتها المظلمة وينقذها من الانهزام واليأس والاستسلام ويرتقي بها إلى رحاب المجتمع الواسعة حيث تتجلّى جماليّات النّفس البشريّة تعاطفاً وتعاوناً وتسامحاً وعطاء.

وهذه التّعاليم أضرمت في الصّدور نار الإيمان البطوليّ ودعت إلى اعتماد البطولة المناقبيّة سلاحاً وحيداً في معركة الحياة. والبطولة المناقبيّة هي بطولة واعية ومؤيَّدة بصحّة التّعاليم وقائمة على محبّة المجتمع وخيره وحرّيّته. هي بطولة متجلّية في نصرة الحقّ وسحق الباطل، في فعلِ الخير والإقدام عليه، وفي تقديمِ ما ينفع المجتمع والخير العام حتّى لو أدّى الأمر للجُود بالنّفس والتّضحية الفرديّة.

إنّ البطولة الاجتماعيّة الّتي أيقظها سعاده بتعاليمه السّامية جسَّدَها في مسيرة حياته تفكيراً وكتابة ومواقف. جسّدها في المدرسة، في السّجن، في المحكمة، وفي مواجهة الطّائفيّين وسلطات القمع والطّغيان. وجسّدها في صبيحة الثّامن من تمّوز، في وقفة العزّ على رمال بيروت، وهو يستخفّ بالموت ويتلقّى رصاصات الغدر مكرّراً ما في التّاريح من أساطير الفداء.

في تلك اللّيلة الكاحلة الظّلماء، تجلّت البطولة النّادرة في مواجهة العملاء المارقين والسّاقطين قي مستنقعات الذّلّ والخيانة والعبوديّة والعار حيث أكّدَ القائد الجريء أنّه لا يبيع الشّرف بالسّلامة ولا العزّ بتجنّب الأخطار. وقبل دقائق من اختراق رصاصات الغدر لصدره، كان يردّد الكلمات التّالية: «أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. كلّنا نموت، ولكنّ قليلين منّا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة».

واقتداء بوقفة العزّ الّتي لا مثيل لها في التّاريخ أمست البطولة الواعية نهجاً واضحاً للأجيال المتعاقبة وللمصارعين المؤمنين الّذين تربّوا في العزّ والّذين وضعت النّهضة القوميّة الاجتماعيّة على أكتافهم عبئاً كبيراً عظيماً، لأنّها تعرف أنّ أكتافهم أكتاف جبابرة وسواعدهم سواعد أبطال.

في هذا الزّمن الرّديء، زمن الأوجاع والآلام والمآسي. أوجاع الفقر والبؤس والجوع، وآلام النّزوح والتّشرّد والقهر والإذلال. كم نحن بحاجة لنستلهم الدّروس من رجل القضيّة، من ذي النّفس الكبيرة الممتلئة حبّاً وإخلاصاً وجمالاً وأحلاماً، من سعاده الّذي لم يأبه للشدائد والأهوال والّذي جسّدَ أسمى معاني التّضحية والبطولات في مسيرة حياته الّتي ختمها بقيمة الفداء. كم نحن بحاجة لنتمسّك بإيمان هذا الرّجل وبمحبّته وصدقه وإخلاصه وبمناقبه الجديدة الّتي تعلِّمنا أن نرفض العيش الذّليل وأن ندوس على المثالب المنحطّة ونسير إلى المعركة لسحق التّنّين الشرّير سحقاً نهائيّاً.

زر الذهاب إلى الأعلى