بأقلامنا

نُبْلُ الرسولية في العمل الثقافي بقلم الشاعر هنري زغيب

نُبْلُ الرسولية في العمل الثقافي
“نقطة على الحرف” الحلقة 1602
“صوت كلّ لبنان”
الأَحد 9 كانون الثاني 2023

في اللقاء الذي كان ضيفَه زميلُنا الكبير سمير عطالله لدى “مركز الثقافة والحريات” الذي أَسَّسه في الأَشرفية قبل سنواتٍ البروفسور ابرهيم نجار – مخصِّصًا له مقرًّا لافتًا في بيت تراثي رمَّمَه مبْقيًا على معالِـمَ في حجارته كما كانت عند بنائِهِ قبل أَكثر من 100 سنة -، أَخذَني التشبيهُ إِلى ما قبلَ نصفِ قرن مع مترسِّل رسوليٍّ آخرَ للثقافة في لبنان: الكاتب ميشال أَسمر الذي أَسَّس “الندوة اللبنانية” سنة 1946 مفتتحًا نشاطها في 18 تشرين الثاني بمحاضرة للنائب يومَها كمال جنبلاط عنوانُها “رسالتي كنائب”، وتوالى بعده كبارُ المفكرين اللبنانيين على منبر “الندوة” في قاعة محاضرات وزارة التربية الوطنية – بناية الشرتوني على ساحة الدباس، فشكَّلَت فترةُ “الندوة اللبنانية” إِرثًا للبنان الفكر والحضارة هو اليوم من أَغلى ما نختزن في ذاكرتنا الثقافية والوطنية.
ما يقوم به اليوم البروفسور ابرهيم نجار في مركزه الثقافي: بناءُ صرحٍ ثقافي جديد معاصر حديث يَبْنيه باستضافة محاضرين من لبنان في لقاءات دورية يتحدَّثون خلالها – مع مُحاوِرٍ أَولًا ثم مع الحُضور – حول تجربتهم السياسية أَو الوطنية أَو الثقافية، فيُغْنُون جمهُورَهم ويُغْنَون بهذه التجربة الحوارية التي، منذ عهد سقراط، هي الموردُ الأَول لاحتكاك الأَفكار بين الحواريين المتنوِّرين.
وإِذا كان ميشال أَسمر لجأَ إِلى طباعة محاضرات “الندوة” في كُتَيِّباتٍ بعضُها دوريٌّ والآخَر موسميٌّ، وفي كتُب ضمَّت وثائقَ وصُوَرًا باتت اليوم مَراجعَ رئيسةً لتراثنا اللبناني – مع ما في ذلك من محدودية الانتشار مهما توسَّعت شبكة التوزيع وباتت اليوم مقتصِرَةً على مكتبات الأَفراد الخاصة وبعضِ المكتبات العامة والجامعية -، فالبروفسور ابرهيم نجار يتَّخذ من التكنولوجيا الحديثة وسيلةَ نشْرٍ واسعةً جدًا بتصوير اللقاءِ فيديُوِيًا ثم نَشْرِهِ على قناة “يوتيوب” التي تَسنَح مشاهدتُها بسهولةٍ فوريةٍ وبدون عناءٍ في جميع أَقطار العالم، وتتيحُ نشْرها من المشاهدين إِلى أَصدقائهم ومعارفهم في كل العالم حتى تنتشر الندوة بلحظات، وتبقى سمعيًّا وبصريًّا، وإِلى مدًى طويلٍ، في الذاكرة البشرية والتكنولوجية معًا.
جئتُ على ذكْر ذلك لأَصل إِلى ظاهرة صحية ضرورية لقيامة لبنان الثقافي من وُحُول السياسة، عبر مؤَسساتٍ ومراكزَ ومبادراتٍ ثقافية غيرِ ربحية بل تطوُّعية يقوم لها مترسِّلون يَهِبُون مجانًا نشاطَهم النبيل وتحرُّكَهم النقي وسَعْيَهم المخلص إِلى الحفاظ على الحركة الثقافية في لبنان، ندواتٍ ومحاضراتٍ ومؤْتمراتٍ ولقاءاتٍ وحواراتٍ وصيَغًا أُخرى تستقطب جمهورًا ثقيفًا أَو ناهلًا مواردَ ثقافية تُنْعش اختناقَه السياسي ناقلةً إِياه إِلى لبنان الحضارة التراث والفكر كي تبقى هويةُ لبنانَ ساطعةً في مناخٍ سليم صحي من الثقافة اللبنانية المتنوِّعة المتميِّزة المتعدِّدةِ الفضاءات، وكان لي ذلك سنواتٍ مثمرةً من الجمهور المتلقي في تجربتي مع “لجنة الأُوديسيه” في بيروت كما في معظم المناطق اللبنانية.
هذه الأَنشطة غيرُ الربحية ولا الانتفاعية، ما سوى بنشْر الثقافة اللبنانية للجمهور اللبناني المختنق بدخان السياسيين الأَسْوَد، هي أَنشطةٌ رسولية من المصدر، ورسولية في الجمهور المتلقِّي، حتى تُصبحَ الرسولية مسلكًا لنهضة الوطن يرتفع عن يوميات البلاد الموحلة الموَقَّتَة إِلى فضاء مشرق بصحو الثقافة الدائمة المثقِّفة في سبيل الإرث اللبناني منقولًا إِلى جمهور اليوم وأَجيالنا الجديدة.
وهو هذا ما يُضيْء به اليوم، تَرَسُّلًا نبيلًا، البروفسور ابرهيم نجار في “مركز الثقافة والحريات”.

زر الذهاب إلى الأعلى