بأقلامنا

السيد جعفر شرف الدين وحكاية قرن

مع حلول شهر تموز 2020 ، تطل ذكرى  مرور ماية  سنة على ولادة  المرحوم  السيد جعفر شرف الدين بالتزامن مع الذكرى التاسعة عشرة لوفاته ، لتضفي على المناسبة أسمى
المعاني وأنبل القيم التي طالما وسمت حياة  فقيدنا الغالي .

لقد نشأ السيد جعفر شرف الدين رضوان الله عليه ، وتربّى وجسّد وفعل وتفاعل وبنى وغذّى
حياة أجيال ، فاستزادت علماً واستنارت معرفة ونشأت نشأة وطنيةً ، ليرسيَ في تراكم ممنهج ، ثقافة واسعة  ووعياً عميقاً حول كل ما في ذلك من تاريخ وحياة لبنان وأمتنا العربية .

كان ملاذ كل خائف ؛ إذا صادق صدق ، وإذا أؤتمن كان الأمين ، وإذا طُعِن سامحَ من موقع  المقدرة .. أوليست هذه سمات النبلاء ؟ .
إنّ إدراكه لمعنى التعليم جعله ينهض بالجعفرية التي أنشأها والده السيد عبد الحسين طيب الله ثـراه ، ووضعهـا أمـانة  فـي عنقه ، وقد تخـرّج منها وعلى يديه الجيل تلـو الجيل من المتعلمين المتنورين : أطبــــاءً ومهندسين ، محامين وحقـوقيين ، كتّابـــاً ومفكـرين ، فنانين ، إعلاميين ، نوابـــاً وموظفين كبـار وإداريين ممن تنكبوا سدة مسؤولية الشأن العام ورجال أعمال ناجحين ،
سـاهموا بكل كفـــاءة في بنـــاء الوطن ، فالعلـم يقرّب ويوحّد ويبني أما الجهل فيهدم بيت العـز
والشرف .
ثم دخل الندوة البرلمانية . فلم يكن ترشحه ثم انتخابه نائباً عن قضاء صور سوى حصيلة لكل
الأنشطة والأدوار والعلاقــات في الإطــار الأعـم للسياسة اللبنانية في عهد الرئيس فـؤاد شهـاب
ويفـوز بالإنتخابـات النيابية لثلاث دورات متتالية بدءاً من سنة 1960 عن قضاء صور .

لقد تماهى مع قضايــا منطقته وقضايــا الوطن والأمة ، وكان واحداً من تلك الكوكبة الفريدة
التي حفـرت عميقـاً أُسس النهضة العلمية ،الثقافية ،الإجتمـاعية والوطنية التي عاشهـا وتعيشهـا
بلادنا فبقيت خالدة في ضمير الوطن والأمة .

كان حركة لا تهدأ وفي اتجاهات عدة . ما استكان يوماً ولا غاب عن سعي وطني أو عمل
سياسي ، أو نشاط فكري ثقافي أو علمي ، ناهيك عن دوره القومي العربي ووقوفه دون تردد
الى جانب فلسطين مذّ اشتعال قضيتها ، فانبرى يستقبل المبعدين من شعبها موظفاً كل الطاقات التي يملكها وفي مقدمها الجعفرية وفريـق العمل فيها ، للعمل على تأمين حاجـاتهم الضرورية في تلك الظروف الحالكة . كما احتضن المقاومين الأوائل وأمّن لهم المأوى والزاد والأمان .

إنها سجية المرحوم وخصاله ، نشأ وتربى على القيم الوطنية والتزام القضايا العادلة ، فكان خير من واءم العمل التربــوي والثقافي والإجتمـاعي مع الهم الوطني وموجبـات القضية القومية على حد سـواء . ورغـم كل التعقـيـدات التي شهدهــا لبـــنان وعلى صعد شتى ، لـم يكـفَّ عـن العمل والإنتـــاج الفكري ، فقد تـوّج خضم فكره خاتمـاً حياته بإنجـازٍ علمي أثير ، تمثل في الموسوعة القرآنية في إثني عشـر مجلداً ، أغنت المكتبة العلمية وأكسبت التراث بريقــاً يجدد التواصل بين الأجيال ولا يقطع مع الحداثة .
إنّ نبضك  مازال يؤرشِـف حيــاة  ما صيغت إلا على نحـو منفرد . وهديــر صوتـك صدى
التاريــخ يحكي أسرار رسالتك الرائـدة في الحيــاة ، وبوح قلمك وسطوع بيانك وثاقب حجتك ،
تذكرنا بالرجــال الكبـار ، رجال قامتهم من ذلك الزمن الذين كانوا على مستوى الوطن والناس
والقضية .

في لحظاته الأخيرة ، أراه يستعرض حياته ، وأجزم بأنه في تلك اللحظة كان وجهه الوضّـاء
مزيناً بابتسامة تعلو شفتيه ، يشي بالرضى التام ، فالرسالة أنجزت ، والدور بلغ منتهاه وقد أكمل استعداده للإنتقال الى جوار ربه مع سائر الصالحين في دنيا الخالدين ..

أبي يا أبي ، إنّ تاريخ قرنٍ وراءك يمشي .. فلا تعتب .

 

تموز 2020                                               محمد جعفر شرف الدين

زر الذهاب إلى الأعلى