بأقلامنا

إخفاقات إسرائيل العسكرية تقودها إلى الدبلوماسية في محاولات إنقاذ الوجه السياسي \ د. شريف نورالدين

. بتاريخ: 29 / 10 / 2024

 

عجز الجيش الإسرائيلي في لبنان ومساعي التهدئة الدولية ومخاطر الحصار الشامل.
وفي خضم تصاعد التوتر على الحدود اللبنانية، ومع تعثر الجيش الإسرائيلي في تحقيق تقدم استراتيجي ميداني، يشهد الوضع الإقليمي تعقيدات غير مسبوقة، حيث تتداخل المساعي الدبلوماسية الأميركية، والعوامل العسكرية على الأرض، والضغوط الاقتصادية على لبنان، ضمن محاولة لإحداث تحول في ميزان القوى.

وتشير التقارير الأخيرة إلى أن المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله أوقعت خسائر ملموسة في صفوف الجيش الإسرائيلي، إذ بلغت حصيلة القتلى الإسرائيليين منذ بدء المناورات العسكرية نحو 90 قتيلاً وأكثر من 750 جريحاً من الضباط والجنود، إضافة إلى تدمير 38 دبابة من طراز ميركافا و4 جرافات عسكرية وآليات هامر ومدرعات وناقلات جند، فضلاً عن إسقاط طائرات مسيرة إسرائيلية. هذه الحصيلة لا تشمل الخسائر في القواعد العسكرية والمستوطنات، مما يثير القلق داخل إسرائيل ويزيد من الضغوط على حكومة نتنياهو في ظل تكتيكات المقاومة.

– أولاً: تكتيكات المقاومة وإفشال التقدم الإسرائيلي: تمكنت المقاومة اللبنانية من فرض تكتيكات ميدانية أعاقت التقدم الإسرائيلي، حيث أحرزت مكاسب عسكرية من خلال فرض نمط حرب استنزاف متدرج.
عجزت القوات الإسرائيلية عن التمركز في مواقع استراتيجية، واضطرت للعودة مراراً إلى قواعدها، مكتفية بتقدم لا يتجاوز مئات الأمتار.
ورغم التفوق الإسرائيلي في السلاح، إلا أن المقاومة اللبنانية استطاعت الاستفادة من مرونة تكتيكاتها القتالية، واعتماد تكتيكات الكمائن والهجمات المدروسة التي أسفرت عن خسائر كبيرة للجيش الإسرائيلي.

هذا التعثر الميداني في لبنان يفرض تحدياً على الحكومة الإسرائيلية، ويدفعها للبحث عن حلول بديلة بعيداً عن المواجهة المباشرة؛ حيث يحاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو(اكزينو)، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، تقليص الخسائر عبر تحويل التركيز إلى عمليات خاصة محدودة واستهداف جوي، تجنباً للمزيد من خسائره البشرية.

وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، إلا أن غياب الأهداف الاستراتيجية الواضحة لحكومة نتنياهو يزيد من الانقسامات في الداخل الإسرائيلي، ويضع الجيش الإسرائيلي في موقف عسير أمام الضغوط السياسية والشعبية.

– ثانياً: ضغوط داخلية على حكومة نتنياهو والانقسامات الإسرائيلية: في ظل استمرار الخسائر الميدانية، يواجه نتنياهو ضغوطاً متزايدة من المؤسسة العسكرية والأمنية ومن الرأي العام الإسرائيلي، حيث تعلو الأصوات المعارضة التي تنتقد الحكومة لفشلها في تحقيق أهداف ملموسة، وتحذر من استمرار التصعيد الذي قد يجر إسرائيل إلى مواجهة طويلة الأمد مع المقاومة اللبنانية.
تدعو شخصيات عسكرية بارزة إلى إعادة تقييم الأهداف العسكرية في لبنان، وتنادي بعض أقطاب المعارضة السياسية بضرورة التحرك دبلوماسياً بدلًا من التورط في معارك لا تحقق سوى الاستنزاف.
وتتباين الآراء بين القيادة الأمنية والعسكرية التي تفضل تخفيف التصعيد والعودة إلى الدبلوماسية، والمستويات السياسية التي تسعى للتأكيد على الحزم دون الوصول إلى حرب شاملة.

وبينما يحاول نتنياهو استغلال أي نصر دبلوماسي أو عسكري للحفاظ على تماسك حكومته، فإن عجز الجيش عن التقدم في لبنان يضعف موقفه، ويزيد من حدة الانقسامات، خاصةً في ظل التصريحات التي تتحدث عن قرب انتهاء الحرب، ما يعكس تناقضاً بين التوقعات الشعبية وواقع الأداء العسكري.

– ثالثاً: التحرك الأميركي ومبادرة هوكشتاين لتجنب المواجهة الشاملة: في ظل تصاعد التوتر، تسعى الولايات المتحدة إلى منع انزلاق الوضع إلى مواجهة شاملة.
ويحاول المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، بمقترحاته، التوصل إلى حل يضمن تهدئة مؤقتة عبر نشر قوات دولية لمراقبة الحدود وتعزيز قوات اليونيفل، كما يقترح انتشار الجيش اللبناني في الجنوب لضمان ضبط أي خروقات محتملة.
هذه الجهود تسعى إلى حماية المصالح الإسرائيلية مع تجنب تصعيد عسكري قد ينفجر ويتجاوز الحدود اللبنانية.

رغم هذه المساعي، تتضمن المبادرة الأميركية شروطاً تعتبرها المقاومة اللبنانية تنازلات تمس سيادتها، إذ تتطلب ضمانات مشددة لأمن إسرائيل، مما يعتبره البعض محاولة لفرض ضغوط إضافية على حزب الله لوقف أنشطته، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد، خاصة في ظل وجود دعم إقليمي لحزب الله قد يعرقل هذه الجهود ويضعف فرص نجاحها، او تسليم الإسرائيلي لامر واقع الميدان والاقتناع بفشله.

– رابعاً: سياسة الحصار الاقتصادي وتأثيرها على الداخل اللبناني: تعتمد إسرائيل، إلى جانب الضغط العسكري، على سياسة الحصار الاقتصادي المتواصل ضد لبنان، في محاولة لدفع الأوضاع الداخلية إلى حالة من التأزم قد تضعف من قدرة حزب الله على الصمود. يعاني لبنان من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ويتفاقم الوضع بفعل الحصار والإجراءات الاقتصادية القاسية التي تزيد من صعوبة الوضع المعيشي، ما قد يؤدي إلى ضغط شعبي على حزب الله وإثارة استياء داخل لبنان مع حصار بري وبحري وجوي وعقوبات وبمساعدة ادواته وحلفاؤه واللوبي في الداخل اللبناني وخارجه .

لكن هذه السياسة تحمل مخاطر، إذ قد تولد مقاومة شعبية ضد الضغوط الإسرائيلية بدلاً من تقويض المقاومة. ويأتي الحصار الاقتصادي كأحد أدوات الحرب النفسية، حيث تسعى إسرائيل إلى استخدام الضغوط المالية لإضعاف الجبهة الداخلية للمقاومة، معتمدةً على تدهور قيمة العملة اللبنانية وارتفاع التضخم، في محاولة لخلق حالة من الاستياء الشعبي تسهم في عزل المقاومة عن قواعدها الداعمة.

– خامساً: مستقبل الصراع وسيناريوهات محتملة: مع تزايد تعقيد الموقف الميداني والدبلوماسي، تبدو الخيارات أمام إسرائيل محدودة، حيث يمكن تصوّر سيناريوهات متعددة:
– سيناريو التصعيد الشامل: قد يتفاقم الوضع إلى مواجهات شاملة إذا استمرت إسرائيل في العمليات الخاصة والضربات الجوية، ما قد يؤدي إلى ردود ميدانية أقوى من حزب الله.

– سيناريو التهدئة المؤقتة: يمكن أن تنجح الولايات المتحدة في فرض تهدئة مؤقتة، تتضمن التزام الأطراف بوقف التصعيد وانتشار الجيش اللبناني والقوات الدولية.

– سيناريو الحصار الاقتصادي طويل الأمد: قد تعتمد إسرائيل وأميركا سياسة ضغط اقتصادي مطول بغرض تقويض المقاومة على المدى الطويل، رغم المخاطر المتمثلة في إمكانية تعزيز الدعم الشعبي للمقاومة.

– سيناريو التدخل الدولي: قد تجد الدول الأوروبية المشاركة في قوات اليونيفل نفسها مضطرة للتدخل لحماية قواتها، ما قد يدفع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي للتدخل للحد من التصعيد.

– تعزيز المحور الإيراني وحسابات التوازن الإقليمي: من الواضح أن الصراع الحالي يعزز موقع إيران في منطقة الشرق الأوسط، إذ يمثل حزب الله أحد أبرز حلفائها لتعزيز دورها الإقليمي.
ومع استمرار الضغوط الغربية على طهران بملفها النووي، تعد مواجهة حزب الله مع إسرائيل رافداً قوياً للسياسة الإيرانية في تصدير نموذجها في المقاومة والتأثير الإقليمي.
لذا، فإنّ إسرائيل تدرك أن هذه المواجهة ليست فقط مع حزب الله، بل هي جزء من صراع أوسع يشمل الإيراني ومحوره.

– دور روسيا والصين في الشرق الأوسط وتأثيراتهما المحتملة: الصراع الحالي قد يكون فرصة لروسيا والصين لتعزيز نفوذهما الإقليمي على حساب النفوذ الأميركي المتراجع.
إذ تتابع موسكو وبكين المشهد عن كثب، فهما ترغبان في ملء أي فراغ قد ينجم عن عجز واشنطن عن إيجاد حلول دبلوماسية دائمة.
يمكن لروسيا أن تستغل الأزمة لتعزيز تحالفاتها الإقليمية، سواءً عبر دعم سوريا وحزب الله، أو بتوفير دعم دبلوماسي في المحافل الدولية، لإثبات مكانتها كقوة عظمى.

من ناحية الصين، فإن استمرار الصراع قد يعزز نفوذها الاقتصادي في المنطقة، لا سيما مع مبادرة “الحزام والطريق”، التي تشمل استثمارات في دول المنطقة.
تعتبر بكين نفسها وسيطاً محايداً، وقد تسعى لتوسيع تأثيرها عبر دعم جهود التنمية في لبنان وسوريا، وهو ما يضعها في موقع جديد كلاعب اقتصادي وسياسي مؤثر.

– تأثير الصراع على مبادرات السلام الإقليمية: تسعى بعض الدول العربية إلى إعادة ترتيب سياساتها، لا سيما تلك التي انخرطت حديثاً في اتفاقيات سلام مع إسرائيل، مثل الإمارات والبحرين.
ويشكل الصراع في لبنان تحدياً لهذه الدول، إذ يضعها أمام مأزق بين التزامها بمعاهدات السلام من جهة، ومواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية وللبنان من جهة أخرى.
هذا الوضع قد يعيد توجيه بوصلة هذه الدول؛ فبدلاً من المضي قدماً في التعاون مع إسرائيل، قد تفضل بعض هذه الدول الابتعاد مؤقتاً، مما يعرقل الجهود الإسرائيلية لكسب حلفاء جدد في المنطقة.

من جانب آخر،تؤدي المواجهات الحالية إلى تحفيز جهود سلام جديدة، إذ ترى دول المنطقة في الاستقرار الإقليمي أولوية، وتسعى للضغط على الأطراف الكبرى لإيجاد حلول مستدامة بدلًا من الحلول العسكرية المؤقتة.

– تداعيات طويلة الأمد على الجيش الإسرائيلي: الخسائر التي تكبدتها القوات الإسرائيلية في المواجهات مع حزب الله قد تدفع الجيش الإسرائيلي لإعادة النظر في استراتيجياته العسكرية.

أيضاً، قد تشهد إسرائيل تغييرات على مستوى قيادة الجيش، مع تعزيز دور القيادات التي تدعم تغيير منهجية الحرب، ومن المحتمل أن يتم تعزيز الاستثمارات في وحدات العمليات الخاصة التي تستهدف نقاط الضعف في خطوط المقاومة، مثل الاتصالات والإمدادات اللوجستية. هذه التعديلات قد تغير موازين القوى مستقبلاً، وقد تجعل إسرائيل تعتمد بشكل أكبر على حلفائها الغربيين لمواجهة تهديدات المقاومة.

خاتمة؛
قد تلعب الظروف الدولية دوراً حاسماً في تحديد مستقبل الصراع.
فإذا ما استمرت التحولات في السياسة الأميركية، قد نشهد ضغوطاً إضافية على إسرائيل للتوصل إلى تسوية دبلوماسية مع لبنان، خاصة في ظل تركيز الولايات المتحدة على المنافسة مع الصين وروسيا في المحيطين الهادئ والهندي. هذا الانشغال قد يؤدي إلى تراجع الدعم المباشر لإسرائيل في الشرق الأوسط، ما لم تكن هناك تهديدات وجودية، وقد يدفعها للتفاوض مع حزب الله أو قبول تفاهمات إقليمية جديدة.

في المقابل، إذا شهدت المنطقة تصعيداً بين الدول الكبرى، كأن تتأجج الخلافات بين واشنطن وطهران أو بين موسكو وواشنطن، فقد تصبح الساحة اللبنانية محوراً لصراعات دولية.

هذه التطورات قد تزيد من صعوبة التوصل لأي حل سياسي، وتخلق حالة من الفوضى الإقليمية المستمرة.

ويتضح أن الصراع الحالي يتجاوز كونه مواجهة تقليدية بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية؛ إذ باتت المواجهة جزءاً من صراع إقليمي ودولي أوسع، تشترك فيه قوى كبرى تسعى إلى تعزيز نفوذها.
وفي هذا السياق، تبدو الخيارات أمام الأطراف جميعاً معقدة.
إسرائيل تقف أمام تحديات اقتصادية وعسكرية، فيما تحاول واشنطن الحفاظ على توازن هش يمنع انفجار المنطقة في صراع أوسع.

تترقب المنطقة في المستقبل القريب مرحلة دقيقة، يمكن أن تشهد تحولات نوعية تؤدي إما إلى سلام هش تحت وطأة الضغوط الدولية، أو إلى تصعيد لا يُعرف مداه، ما قد يؤدي إلى إعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط.
وفي كلتا الحالتين، تظل خيارات الأطراف كافة، من إسرائيل والمقاومة إلى القوى الدولية، متعلقةً بمدى القدرة على فرض توازنات جديدة في إطار من السلم أو الصراع.

بالطبع، مع كل الحراك الدبلوماسي وما يطرح من صيغ سياسية والتحضير لاتفاقيات، مؤجل الى ما بعد الانتخابات الاميركية وما ستفرزه وتحدده وتنتجه، او الى اقرب الأجلين بالرهان على الانتخابات والميدان، في محاولات انجاز انتصار دبلوماسي.

وكما حزب الله يقود معركته في الميدان في حماية لبنان وارضه وحدوده، يقود دولة الرئيس نبيه بري معركته السياسية وحيدا، والتي لاتقل اهمية عن العسكرية بل توازيها لترجمة صوت الحرب الدائرة في ثبات الموقف التفاوضي وحفظ لبنان وسيادته، ومواجهة كل الضغوط الداخلية والخارجية والتي يديرها الاميركي بشكل مباشر لشريكه الإسرائيلي كرمى لعيونه…

زر الذهاب إلى الأعلى